يمامة صوّان
في آذار 2011 ثُرنا من أجل سوريا الحُرة.. بعد عقود من الصمت، من التعذيب المنهجي في سجون لا تعرف الشمس طريقًا إليها، من اغتيال الكلمة الحرة لأن “الحيطان لها آذان”، وتقييد الفكر المستقل!
في الخامس عشر من آذار، انطلقت الصرخة الأولى ولم يتوقع أحد أن يرتد صداها من كل زاوية في البلاد المكلومة!
“الموت ولا المذلة” لم يكن مجرد هتاف نطقت به حناجر الأحرار، بل خلاصة معاناة جيل بعد جيل تحت حكم الأسدين. أربعة وخمسون عامًا من سرقة الحرية، من تدجين الإنسان، من تحويل المواطن إلى رقم في ملفات المخابرات.
وفي الثامن عشر من آذار وبعد ثلاثة أيام من أولى الصرخات، تضرجت الأرض بدماء أول الشهداء، فكتبنا بالدم على جدران الوطن: “الشعب السوري ما بينذل”.
لم يحتمل النظام انتفاضة الكرامة، فاعتقل أطفالنا واقتلع أظافرهم لمجرد أنهم خطوا على الجدران: “جاييك الدور يا دكتور”.
قابلوا ورودنا بالرصاص الحي، وأغانينا بهدير الدبابات، وشعارنا “سلمية سلمية” بعقيدة “الأسد أو نحرق البلد”. كل جمعة كانت تحمل اسمًا يجسد حلمًا: “الكرامة”، و”الصمود”، و”الشهداء”..
وسرعان ما اكتظت سجونهم بالمزيد من خيرة شبابنا.. ليبدأ فصل جديد من العذاب في أقبية المعتقلات.. فابتكر الجلّادون منظومة من التعذيب لقتل الحلم فينا..
وهكذا بدأ الجلاد يتفنن مرة أخرى باختيار عذاباتنا، مقتاتًا على أشلاء أحلامنا.. ولم يترك لنا سوى الموت: قصفًا، وجوعًا.. وخنقًا.
ومع استمرار وحشية القصف أصبح النزوح والتهجير مصيرنا، وأصبحت “الباصات الخضر” أسوأ كوابيسنا وأقسى آلامنا..
ليضاف ملف جديد لملف عذاباتنا وموتنا.. البحر ابتلع الآلاف منا في رحلة البحث عن كرامة مسلوبة.. ومن نجا من كل ذلك، مات قهرًا وشوقًا لديار استوطنتها واستباحتها المليشيات!
ولم تنتهِ حكاية ألمنا..
كنا مع كل يوم نستبشر خيرًا وأملًا، موقنين بأن من نصر عبده وهزم الأحزاب، سيرفع الظلم عن كاهلنا.. حتى جاء الزلزال المدمر في شباط 2023 لمن ظنوا أن مآسيهم قد بلغت ذروتها، كان اختبارًا جديدًا، لكنه أثبت قوة إرادتنا مرة أخرى.
انتصرنا في أيامنا المليئة بالموت، انتصارًا يفوق انتصارات أعظم القادة. انتصار الكرامة على الذل!
فكان النتاج أربعة عشر عامًا من الموت.. من بطولات يومية لا يراها العالم، من انتصارات صغيرة في معركة البقاء.. من الاستمرار على عهد الثورة!
فكنا في كل مرة نثبت أن الثورة ثورة شعب.. والشعب إذا أراد الحرية نالها..
بعد أربعة عشر عامًا من الصمود في وجه الطغيان، أشرقت شمس التغيير.. وكما للثورات قوانينها التي لا تتبدل، فإن سقوط الطغاة حتمية تاريخية مهما طال الزمن..
في السابع والعشرين من تشرين الثاني، اندلعت معركة “ردع العدوان” معركة مصيرية لاسترداد أرضنا وكرامتنا. كانت مخاوفنا تتصاعد من أن يعود النظام وحلفاءه لتطبيق سياسة الأرض المحروقة واستعادة المناطق المحررة، لكن قدر الله كتب لنا مسارًا آخر. وبعزيمة الأحرار، بدأنا نحرر المدن واحدة تلو الأخرى، وتحولت معركة الصمود إلى معركة تحرير، لتتكشف الحقيقة التي طالما آمنا بها: أن إرادة الشعوب لا تُقهر.
لتتحقق المعجزة الأولى في الثامن من كانون الأول: سقط وهم “الأبد” وتبخرت أسطورة “القائد الذي لا يُقهر”، وفرّ الطاغية تاركًا وراءه بلادًا ينهشها الدمار والفساد.. بلادًا منهكة ومثقلة بالألم..
لكن سقوط الأسد لم يكن سوى الخطوة الأولى على طريق الخلاص. وكما بدأت قصة حريتنا في آذار، قدّر لهذا الشهر أن يحمل لنا بشائر أخرى.. بوحدة التراب السوري وعودة كُلّ الأراضي السورية..
فما ظنناه انتصارًا في كانون الأول كان فتحًا لانتصار أكبر في آذار شهر الثورة..
اليوم، بعد كل هذه التضحيات، ما زلنا نحلم بسوريا تتسع لجميع أبنائها.. نحمل في عيوننا قصة شعب رفض الركوع. وفي قلوبنا أمانة مليون شهيد. آمال المعتقلين. أحلام المهجرين.. بأن نبني وطنًا حرًا يليق بنا وبتضحياتنا!
فيا مرحبًا بآذار النصر..