-علي مكسور
ليست المدن شوارعَ واسعةً أو أبنيةً شاهقةً أو جدرانًا ميتةً لا تسمع ولا تعي القول.
ليست المدن مكانًا عابرًا شاءت الأقدار أن يلبث فيها المرء بضعًا من سنوات حياته أو جلّها.
بل هي روح تتقد من بين جنباتها حسًّا بمن وطأت قدمه إيّاها؛ من هرب من البطش إليها، أو من قاوم فيها وآثر البقاء رغم كل ما كان وما سيكون.
هي المشاعر المتناثرة من صدر العابر خلالها، يُفضي إليها ما يحمل من الهموم والعثرات، يحمل خيبات الماضي والأمل الوهمي بالمستقبل، يخاطبها ويثني عليها، وهي بدورها تحاوره حوارًا لا مرئيًا، تعطيه الناقص فيه، تبحث عن الكامن المدفون وتوقظ بداخله ما غفلَ عنه.
هي الحافظة لروايةٍ لم تُكتب، أو قصة حبٍّ لم تكتمل، لبوحٍ صادق أو اعترافٍ وقح.
في كل كتابٍ نقرؤه، وكل روايةٍ تأسرنا، وكل حكايةٍ أسطورية مرّت عبر الزمان، نجد دائمًا ذكرًا جغرافيًا واضحًا للمدينة التي تدور فيها الأحداث.
يستفيض الكتّاب في الوصف: وصفٌ دقيق لكل زقاقٍ ومقهى، لكل إشارة مرورٍ ومعبر مشاة.
يتوسّعون في الحديث عن معلمٍ تاريخي، عن حجارةٍ عريقة وتضاريسَ بديعة.
للمعمار، وللشوارع، وللمحطات، ذاكرةٌ جمعيّة؛
ذاكرةٌ تحفظ وجوه العابرين، وتلمّ شتات المنسيّين، وتهمس في آذان من يُبصر المعنى خلف الأشياء بأننا واحد، مهما بعثرتنا الأيام، ومهما علا صوت الاختلاف.
فهذه محطة بغداد تستقرّ في قلب حلب،
وذاك شارع الكويت يتنفّس في قلب اللاذقية.
بعض الأمكنة ترتقي لتغدو رمزًا لمدينتها، تُعرَف به ويُعرَف بها:
السيف الدمشقي شامخ في منتصف العاصمة
قلعة حلب كأنها عين التاريخ ترقب بصمت وحذر
ساعة الساحة في حمص تُضبط عقاربها على وقع هدير نواعير حماة
الجسر المعلّق في دير الزور يظلّ شاهدًا على عبورٍ لا يُكتب، وغيابٍ لا يُنسى
المنسيّون ليسوا أولئك الذين ماتوا بصمت فقط، بل هم أولئك الذين عاشوا بصمت أيضًا.
الذين مرّوا في الأزقّة دون أن تلتقطهم عدسة المكان، أو تُكتب أسماؤهم في سجلّ الذكرى، أو تُروى حكاياتهم على ألسنة الناس.
هم الغرباء في مدنهم، الراحلون عنها قسرًا، المطرودون من الذاكرة، لأن صراخهم لم يجد من يسمعه. لقد دقّوا على الجدران كثيرًا، ولا مجيب.
المنسيّون هم الذين ساهموا في بناء الحكاية، لكنهم لم يظهروا في الصورة الأخيرة:
عامل البناء الذي شيّد واجهات المدينة ثم غادرها
المرأة التي كانت تبيع الخضروات على عتبة الباب
الطفل الذي ضاع في الزحام، وضيّع حلمه في صخب الضجيج
الشاب الذي صرخ في الشوارع غضبًا وكرامةً، قبل أن يُعتقل ظلّه ويغيب وجهه الوضّاح في غياهب السجن وأروقة المعتقلات
ربما لا شيء يخلّدهم إلا المكان نفسه:
الدرج الذي جلسوا عليه، النافذة التي كانوا يطلّون منها، والمقهى الذي شهد صمتهم أكثر من أحاديثهم.
بقوا هناك في التفاصيل، في رائحة الرطوبة، في ظلّ الحائط، في أثر خطوةٍ عبروها نحو ما اشتهوا ولم يصلوا.
قد يصمت الناس، وتغيب الأصوات، وتتغيّر الأزمنة، لكنّ المكان لا يصمت.
الجدار المتصدّع يتذكّر من اتّكأ عليه ذات مساء،
والباب المخلوع ما زال يئنّ كلما مرّت عليه الريح،
والساحة لا تزال تحتفظ بصدى الخطى، حتى بعد أن رحل أصحابها.
الأمكنة تحفظ، دون أن تُكلَّف.
تحفظ بذاكرتها التي لا تشيخ، والتي لا تُفلح يد الترميم في محوها:
مقعدٌ مهمل في مدرسةٍ أُغلقت، درجٌ في بيتٍ تهدّم، أو شجرة نبتت في فناء معتقل.
تلك ليست تفاصيل باهتة، بل شواهد على ما كان، وعلى من كانوا.
فالحجارة، حين تعجز عن النُطق، تبكي بصمتها، أو تصرخ بما عجزت الذاكرة عن حفظه.
ولعلّ الحجارة، أكثر وفاءً من البشر، لا تنسى من مشى عليها، ولا تخون من اختبأ خلفها.
تبقى هناك، لتخبرنا أننا لسنا أول من مرّ… ولن نكون آخر من يُنسى.
المدينة لا تنسى.
قد تصمت، لكن في صمتها نبضٌ خفيّ لحكايات لم تجد كاتبها بعد.
وربما، نحن الذين نمرّ بأرصفتها، نكون شهودًا على المنسيّين دون أن ندري،
أو لعلنا نكون – بأنفسنا – أحد أولئك الذين ستذكرهم المدينة ذات يوم،
حين يشيخ الحائط، وتُسأل الأرصفة عن الذين مضوا: أين هم؟ وماذا فعلوا؟
بعد أن ابتلعتهم المنافي ولفظتهم الأرض.