غالبا ما ينقض النسيان على ذاكرة الشعوب، ويتلف بعضا من ماضيها الناصع، لتجدها تبكي حاضرها وتنزف أيامها. فكيف هو الحال بشرقنا المتعب والتائه في عالم تجرفه المادة إلى مستنقع الهلاك، يتخبط في واقع مأزوم ومهزوم على حلبة الرأسمالية العالمية المتصاعدة.

 

ها هي بقاعنا العربية تعيش حالة إنكار منذ سنوات تلفظ معها بديهيات التاريخ والجغرافيا وقيم الإنسان العربي التي سرعان ما تلاشت تحت وطأة ما سمي بالحداثة وتحولات أتتنا من خلف البحار فأصابت ثوابتنا في مقتل.

 

أغمضنا أعيننا ذات مساء على حلم عربي سيبزغ فجره يوما، لنستفيق مثقلين بكوابيس لا تنتهي فصولها حيث تبدلت قائمة الأحلام والأولويات، تعطل العقل الجمعي عن التفكير، تشعبت المصالح والأفكار والآراء وتعقدت الأبجديات حتى انكفأ الحرف العربي جانبا وتنحى أصحاب الأقلام النيرة باستثناء قلة قليلة، وخضع الجميع للعبة أمم زينت لنا نواياها التقدمية وبنت لنا أحلاما من ورق تشحن طاقاتنا بنفط سياسي مطعم بالنفاق والتحايل، حتى ذابت قضيتنا الأم في المخيلة وهرمنا ننام ونستيقظ على عبارة قيام دولة فلسطينية وحل الدولتين. وهكذا حصدنا المهانات السياسية والهزائم الدبلوماسية وطأطأنا الرؤوس خلف أسوار الارتهان والتبعية حتى تبعثرنا مع الريح لا حاضر لنا ولا مستقبل.

 

لكن ثمة من أهل هذه الأرض من عقد العزم وأعد العدة وآمن بأن الأمل وإن تعثر مرارا عند عتبة المستحيل إلا أنه يبقى عصيا على السقوط. فكان السابع من أكتوبر تاريخا تسطر دقائقه وساعاته ملاحم الحدث الذي خطف اهتمام العالم، وميلادا جديدا لقضية أرادوا دفنها حية فانتفضت مجددا بطوفان جارف هذه المرة حمل الأقصى اسما وعنوانا.

 

بدا الأمر أشبه بالعودة إلى البديهيات، إلى قناعات تطل مجددا مزهوة بحدث مدو يفعل فعله على الأرض، فقد أتى الطوفان بسيله وأمواجه على رمال الخنوع والتردد، ودخل كثر في حالة إعادة النظر، والجلوس على كرسي المراجعة وجلد الذات، وعادت الروح الثورية بكوفية وحجر ونشيد، وقبضات ونبضات اعتقد العالم أنها اضمحلت وغادرت عقول الجيل الوليد، وغاب صخبها أمام ضجيج النشاز من هنا وهناك بفعل تكاثر الأقلام المأجورة والشاشات العميلة المكتظة بكائنات إعلامية وفنية تدعي الثقافة والتحرر، ليخبو كل ذلك أمام طوفان أماط اللثام عن هوية ثورية اقتحمت الميادين والساحات وميزت بين حق وباطل وهتفت للعدالة والإنسانية.

 

ليست صدفة أن تنتفض جامعات الغرب ويتكشف زيف شعاراته وأن ينبض العالم بواقعه الحقيقي والافتراضي بشريان غزة، ويعيد تموضعه خلف معركة هزت المنطقة والعالم.

 

ورغم غزارة الألم ثمة من يعبر الحدث حتى اللحظة على أنقاض الدمار وركام ما كان بيوتا للفرح والحياة ببسالة وشجاعة، داخل القطاع المنكوب أو خارجه، فالتقى القلم بالبندقية وصدحت الكلمة وعلا الصوت، نعم فنحن هنا باسم القلوب المنكسرة وأصوات الأنين المسافرة مع أثير كل فلسطين، وما نوم البراعم الأبدي هناك سوى امتحان الضمائر ترسمه الأرواح الصاعدة على خطوط الأرض والسماء.

 

انطلاقا من هنا؛ لم يكن الحدث ليمر مرور الكرام، فقد استنفرت دول ومنظمات وهيئات، ترافع عن نفسها في محكمة العدالة ترفض رسوبها وافتضاح كذبها. أما في عالمنا العربي المغلوب والمنتشي بكأس الرفاهية والنأي بالنفس، والغرق بعيدا في كوكب المال والأعمال والتسليم بواقع فرض بقوة الاستعمار والاستبداد، فإن بعضا خرج يعاند أقدار الحاكم بأمره، ويتقدم صفوف المواجهة سواء بصرخة حق تدوي وسط خيم المقهورين، أو فعل مقاطعة تصيب رصاصاته قلب من استولوا على الأرض والماء والهواء.

 

لكل ذلك خرج كثيرا من أحقاد الخيبات المتتالية وسمعنا أصواتا تتمرد على فعل الأمر وإبداء السمع وجواب الطاعة، واحتدم النقاش مع من نجح بجعل جبناء وجشعي  هذا الزمن يلهون على  أنقاض الفاجعة ، تخطفهم المباهج الملونة يعيشون يأسهم متمترسين خلف جدران التطبيع ملوحين بحمامات السلام المصطنعة ، إلا أن الطوفان بشيبه وشبابه في غزة وخارجها أبى إلا أن يقلب الصورة ويرمم تصدعات الإنسانية ويعلن طلاقه الكاثوليكي مع الرضوخ والاستسلام ويرفع لاءاته مجددا بعد أكثر من خمسة وسبعين عاما رفضا لهذا التفلت الكوني، ورفضا لعناوين وشعارات امتلأنا بها حد التخمة فتقيأناها فراغا لا أساس له، بل داس أصحابها ما رددوه على مسامعنا من أخلاقيات وشرائع وقوانين حتى استحكم منطق الغاب وبلغ الظلم مبلغا عظيما دون أن ترف الأجفان. فأصبح من الواجب العبور من مرحلة الانحطاط إلى مرحلة النهضة والتمرد على لصوص هذا العالم ممن رسموا لنا جسورا وهمية للتقدم والحرية والعدالة وادعوا زورا أنسنة الوجود، حتى وجدنا أمتنا تعيش سجنها الكبير وتأكل لقمتها إما مغمسة بالدم أو مثقلة بالتملق والذل.

 

للمرة الأولى؛ التقى العالم على تحدي طاغوت المال والسياسة العالميين، لا مكان للخوف أو الهوان،  نستلهم الجرأة والعنفوان من رجال ونساء عشقوا تراب غزة وفلسطين فعكسوا مسار التاريخ والحروب، مالوا بالسفينة الراكدة، ووخزوا ضمائر نائمة وكذبوا فجور حاقدين وكارهين، وأعادوا الاعتبار لمشروع “الاحتلال إلى زوال”.

 

مدينون لك أيها الطوفان من أقصى غزة إلى أقصى هذا العالم، فمعك لم يعد لرثاء الهزائم مكان، معك الدم الفلسطيني والعربي يرسم المعادلات ويبعث البديهيات من جديد، يحيي الحاضر ويكتب المستقبل ويتنبأ بعصر مختلف وبنصر مؤزر لأهل هذه الأرض المعمدة بالدموع والدماء.

 
أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.