في ظل التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، يبرز المكوّن التركماني في سوريا باعتباره جسراً طبيعياً يمكن أن يساهم في تعزيز العلاقات بين سوريا وأذربيجان، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. فالتركمان، بفضل انتمائهم العرقي والثقافي المشترك مع الشعب الأذربيجاني، يشكلون رافعة حيوية لأي تقارب سوري أذربيجاني، ويُمكن أن يؤدوا دوراً محورياً في مدّ جسور الثقة والتعاون بين البلدين.
لقد دفع تركمان سوريا ثمناً باهظاً خلال العقود الماضية، حيث خضعوا منذ عهد حافظ الأسد لسياسات تهميش وتذويب منهجية طالت هويتهم الثقافية والسياسية، واستمر هذا النهج في عهد بشار الأسد. ورغم من كل ذلك، لم يتوانَ التركمان عن المشاركة الفاعلة في الثورة السورية، وقدموا خلالها آلاف الشهداء، إيماناً منهم بحقهم في وطن حرّ كريم يتّسع لجميع مكوناته.
غير أن ما يثير القلق في المرحلة الراهنة هو غياب أي تصور واضح لدور التركمان في سوريا المستقبل، رغم ما قدّموه من تضحيات، وهو أمر يشكّل مفارقة مؤلمة، ويهدد بإقصاء مكون وطني أصيل من معادلة الحكم وإعادة الإعمار. إن تغييب التركمان عن المشهد السياسي سيكون خطأً استراتيجياً، لا سيما وأنهم يشكّلون صلة وصل طبيعية مع العالم التركي الأذربيجاني، بما يملكونه من روابط لغوية وثقافية وتاريخية.
من هنا، فإن تمكين التركمان سياسياً وإدارياً في سوريا الجديدة لا ينبغي أن يُنظر إليه من باب المجاملة أو الترضية، بل هو حق مشروع وضرورة استراتيجية تفرضها اعتبارات التوازن الوطني أولاً، واعتبارات الانفتاح الإقليمي ثانياً، خاصة باتجاه جمهوريات آسيا الوسطى وفي مقدمتها أذربيجان.
وفي السياق ذاته، يمكن للتركمان أن يكونوا قناة تواصل دبلوماسية وشعبية بين سوريا وأذربيجان، عبر تعزيز التعاون في مجالات الثقافة والتعليم، وتشجيع التبادل الأكاديمي والاقتصادي، بما يساهم في إعادة إدماج سوريا ضمن محيطها التركي الآسيوي من بوابة الشعوب الصديقة.
إن إدراك أهمية التركمان فاعلاً وطنياً من جهة، مكوّناً ذا امتداد ثقافي وإقليمي من جهة أخرى، يُعدّ أحد مفاتيح بناء سياسة خارجية متوازنة لسوريا المستقبل، تُراعي التنوع الداخلي، وتفتح آفاقاً جديدة للتعاون الإقليمي البنّاء.
في السنوات الأخيرة، شهدت الساحة السياسية العالمية تحولاً ملحوظًا في طبيعة العلاقات الدبلوماسية بين الدول؛ فلم تعد تقتصر على مفاهيم الصداقة والتقليدية، بل باتت تُعاد صياغتها بما يخدم الأهداف الاستراتيجية والمصالح المشتركة في سياق متغير. وفي هذا الإطار، فإن إعادة إحياء العلاقات التي بقيت لفترة طويلة في حالة من الجمود بين سوريا وأذربيجان، تمثل خطوة بالغة الأهمية ليس فقط بالنسبة للدولتين، بل كذلك لصالح الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها.
لقد أصبحت جمهورية أذربيجان، بعد انتصارها في حرب قره باغ، لاعباً إقليميًا أكثر تأثيرًا وثقة في نفسه، مستندة في ذلك إلى مصادرها الضخمة من الطاقة، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، ورؤيتها النشطة في السياسة الخارجية. لم تعد باكو مجرد دولة في جنوب القوقاز، بل باتت تحظى باهتمام عالمي متزايد، وتسعى لتوسيع حضورها الدبلوماسي والاقتصادي على الساحة الدولية.
في المقابل، تمر الجمهورية العربية السورية بمرحلة دقيقة من تاريخها، إذ تخرج تدريجيًا من سنوات الحرب الطويلة، وتدخل في مسار إعادة الإعمار والبناء، وهي عملية معقدة تتطلب دعمًا خارجيًا حقيقيًا في مجالات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. وفي هذه النقطة تحديدًا، تتقاطع مصالح سوريا مع إمكانات أذربيجان، التي تمتلك خبرات واسعة في هذه المجالات.
أضف إلى ذلك، فإن انخراط أذربيجان النشط في منظمة الدول التركية، منحها شبكة دبلوماسية واسعة وفاعلة في مناطق مختلفة، ما يُمكن أن يفتح أمام سوريا آفاق تعاون جديدة وفرص انفتاح على فضاءات إقليمية طالما ظلت بعيدة عنها في السنوات الأخيرة. من شأن هذه الخطوات أن تعزز من فرص الاستقرار الإقليمي، إذ إن إقامة جسور تعاون بين جنوب القوقاز والشرق الأوسط قد تساهم في تحويل بؤر التوتر والصراع إلى مساحات حوار وشراكة.
ولا يمكن إغفال الجوانب الثقافية والتاريخية التي تربط الشعبين، فهناك إرث حضاري مشترك وجذور ثقافية عميقة، يمكن استثمارها لتعزيز التفاهم المتبادل وترسيخ العلاقات على مستوى الشعوب، وليس فقط على مستوى الحكومات. المبادرات الثقافية والتعليمية، وتبادل الوفود والمهرجانات الفنية، يمكن أن تؤدي دورًا فعالًا في بناء جسور الثقة وتعزيز العلاقات على المدى الطويل.
في الخاتمة، إن إعادة إحياء العلاقات بين دمشق وباكو ليست مجرد خطوة بروتوكولية في السياسة الخارجية، بل هي فرصة استراتيجية لإرساء نموذج جديد من التعاون بين دولتين تواجهان تحديات مختلفة، لكن مصالحهما تتقاطع في أكثر من مجال. وإذا ما استُثمرت هذه الفرصة بالشكل الصحيح، فإن الفائدة لن تعود فقط على العاصمتين، بل سيكون الشعبان هما الرابح الأكبر، في مسار نحو الاستقرار والتنمية والتكامل الإقليمي.