في تحول تاريخي تُختتم به عقودٌ من الهيمنة السياسية، واجه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي – الذي قاد نيلسون مانديلا يومًا إلى السلطة، والذي طالما كان رمزًا للتحرر والنضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا- تحديًا جديدًا لم يسبق له مثيل منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بفقدانه لأول مرة أغلبيته المطلقة في الانتخابات البرلمانية، مما يضعه أمام تحدي تشكيل حكومة ائتلافية لأول مرة في تاريخه. فخلال الانتخابات التشريعية التي أُجريت في 29 مايو الماضي، حصل الحزب على 159 مقعدًا فقط بنسبة 40.1٪، وهو ما يشير إلى تراجع كبير مقارنة بالماضي حيث كان يستحوذ على 230 مقعدا من أصل 400، أي بنسبة 57.5٪. واستطاع حزب “التحالف الديمقراطي”، أكبر أحزاب المعارضة، الظفر بما مجموعه 87 مقعدًا، بينما نجح حزب “رمح الأمة” الجديد بقيادة الرئيس السابق جاكوب زوما، في تأمين 49 مقعدًا، مما جعله ثالث أكبر قوة في البرلمان.

 

تأتي هذه التطورات في أعقاب موقف جريء اتخذه حزب المؤتمر على الساحة الدولية، حيث تقدم بشكوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، متهمًا إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، مما وضع جنوب أفريقيا في طليعة الدول المنتقدة لسياسات إسرائيل. هذه القضية، التي تحركها روح التضامن العميق مع القضية الفلسطينية، تجد جذورها في التشابه الذي يراه الحزب بين معاناة الفلسطينيين وقسوة إدارة الأوطان التي فرضها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

 

وإذْ يُحتمل أن تستغرق القضية أمام المحكمة الدولية أمدًا طويلاَ، فإن أية حكومة ائتلافية جديدة في جنوب أفريقيا سترث هذا الملف الشائك. ومن المحتمل أن يشكل حزب المؤتمر -الحاصل على 40% فقط هذه المرة- ائتلافًا للحكم مع واحد أو أكثر من الأحزاب الثلاثة الرئيسية المعارضة، وهي التحالف الديمقراطي، وحزب المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية، وحزب “رمح الأمة” بقيادة جاكوب زوما.

 

في هذا السياق المتقلب، يبقى السؤال المحوري: هل سيستمر جنوب أفريقيا في تبني موقف قوي ضد إسرائيل على الساحة الدولية، أم أن تحولات السلطة المحلية ستؤدي إلى تعديل أو حتى تغيير هذا المسار؟ الإجابة على هذا السؤال قد تُعيد تشكيل كثير من السياسات الخارجية والداخلية في البلاد.

 

في الأفق السياسي الجنوب أفريقي، تلوح ملامح تلاقٍ نادر بين الأحزاب المتنوعة، حيث تتوحد في تفاعلها مع القضايا الدولية، لا سيما القضية الفلسطينية. منذ زمن الفصل العنصري، كان لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي نبرة تعاطف مع فلسطين، على الرغم من أن جنوب أفريقيا ظلت تربطها علاقات ودية مع إسرائيل. غير أن هذه العلاقات شهدت تدهوراً ملحوظاً منذ العقد الأول من القرن الحالي، عندما بدأ قادة حزب المؤتمر باتهام إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري. وتطور الأمر ليشهد العام 2015 لقاءً بين الرئيس السابق جاكوب زوما ووفد من حماس، وفي 2019 تم تخفيض تمثيل جنوب أفريقيا في تل أبيب إلى مجرد مكتب اتصال.

 

ومع تصاعد الأحداث عقب السابع من أكتوبر والحرب التي تلته في غزة، اتخذت جنوب أفريقيا موقفاً قاطعاً ضد إسرائيل، بدءًا من قرار البرلمان بإغلاق السفارة الإسرائيلية، واصلاً إلى تهديد وزير الخارجية، ناليدي باندور، بمعاقبة أي مواطن جنوب أفريقي يقاتل مع الجيش الإسرائيلي. وتُوّجَ هذا العداء برفع جنوب أفريقيا قضيته الشهيرة إلى محكمة العدل الدولية في ديسمبر. وأثناء الحملات الانتخابية، وأمام حشدٍ من أنصار الحزب، صدّح رئيس الدولة سيريل رامافوزا بشعار “من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة”، مؤكدًا التزامه مرةً أخرى تجاه فلسطين، مما أثار استنكاراً واسعاً في المجتمع اليهودي الجنوب أفريقي والعالم الغربي.

 

وعلى نحوٍ مُماثل، يبرز حزب “المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية” -الذي حلّ رابعًا بزعامة جوليوس ماليما، وهو يتبنى نهجاً ماركسياً شعبوياً- بدعواته ليس فقط لدعم فلسطين، بل وتسليح حماس لمواجهة إسرائيل. بينما احتفظ حزب “رمح الأمة” الذي حل في المرتبة الثالثة بموقف غير واضح تجاه القضية الفلسطينية، ربما لرغبته في عدم إغضاب اللاعبين الدوليين أو الابتعاد عن سياسات حزبه السابق، حزب المؤتمر، الذي كان ينتمي إليه قبل أن ينشق عنه.

 

في الطرف المُقابل، فإن “التحالف الديمقراطي”، الحزب المعارض الذي يقوده جون ستانهوزن، ومعقله في كيب تاون الغربية، المقاطعة الوحيدة من بين مقاطعات جنوب أفريقيا التسعة التي لا تقع في أيدي حزب المؤتمر، وجاء في المركز الثاني، فقد اختار الابتعاد عن الاتهامات بالإبادة الجماعية ضد إسرائيل، داعيًا جنوب أفريقيا للتوسط فقط في النزاع. لذا يُنظر إلى هذا الحزب على أنه ليس معاديًا لإسرائيل، خاصة أنه يتمتع بدعم كبير من المجتمع اليهودي في جنوب أفريقيا من خلال الاتحاد الصهيوني الجنوب أفريقي والكنيسة المسيحية الصهيونية، اللذان يُعتبران حليفان قويان لإسرائيل في مواجهة الدعم السياسي لفلسطين.

 

وبِوَصْفِ التحالف الديمقراطي، ثاني أكبر الأحزاب في جنوب أفريقيا، هو “الحزب المفضل للأقلية الأوروبية في البلاد”، فإنه في تواصلٍ دائم مع بني عمومتهم في أوروبا والغرب، وعمل إبان الانتخابات على انتقاد حزب المؤتمر باعتباره حزبًا ركّز على ملفٍ خارجي -قضية فلسطين- بدل العمل على تقليص نسبة البطالة التي تصل لنحو 30%. بيد أنّ الادعاء مضلل في تفاصيله، إلا أنه لاقى رواجًا لدى النخبة الاقتصادية الغنية التي تفضّل مواصلة التعاملات الاقتصادية مع إسرائيل. وهي سردية دعمتها قوى خارجية ممن نقمت على حزب المؤتمر منذ أعلن محاكمة إسرائيل.

 

فعلى إثر رفعه الدعوة توالتْ توبيخات ومحاولات عقابٍ من الكونغرس الأمريكي لجنوب أفريقيا، حيث وقع أكثر من 200 نائبٍ من الكونغرس الأمريكي رسالة إلى وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، تدين جنوب أفريقيا، وتصف تصرفاتها بأنها دليل على مدى استعداد أعداء إسرائيل لشيطنتها. وذلك في إطار مشروع قانون تقدم به كل من النائب جون جيمس والنائب جاريد موسكوفيتش، يطالب بمراجعة شاملة للعلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتي تتضمن بيانات تفصيلية حول تأثير جنوب أفريقيا على الأمن القومي الأمريكي ومصالحها الخارجية، في إشارة منهم إلى محاكمة إسرائيل. وادعى مشروع القانون الأمريكي أن حزب المؤتمر وقادته يُبطنون دوافع معادية للسامية وراء إدانتهم للمستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، كما اتهم المشروع المسؤولين الحكوميين الجنوب أفريقيين “بتلقي مكالمات هاتفية دورية من زعيم حماس إسماعيل هنية”.

 

بل غَلَا النواب الأمريكيون في هجومهم واصفين إياه بالحزب “غير القادر على حكم بلاده، مع تاريخ من سوء إدارة لموارد الدولة، مما يهدد شعب جنوب أفريقيا واقتصاده”. وهذه السردية الأمريكية ذاتها التي تتلاقى مع الانتقادات التي وجهها حزب التحالف الديمقراطي لحزب المؤتمر.

 

وفي سياق متصلٍ بقراءة نتائج الانتخابات البرلمانية في ظل الوضع الدولي، فقبل الاستحقاقات التشريعية بأشهر فقط، ألقى الخبير الجيوسياسي الأمريكي، شهيد بولسن، مؤسس قناة الأمة الوسطى لتعزيز الاستقلال السياسي للعالم الإسلامي، الضوء على ما اعتبره مساعي الولايات المتحدة لمعاقبة حزب المؤتمر بسبب مواقفه الجريئة ضد إسرائيل. وصف بولسن الأساليب الأمريكية بـأنها “انقلاب الناعم”، إذ تشمل محاولات خنق الحزب سياسيًا واقتصاديًا، والتدخل غير المباشر في الانتخابات من خلال دعم أحزاب مثل التحالف الديمقراطي ورمح الأمة.

 

استنادًا إلى هذا المعطى التحليلي، نُشير أيضًا إلى أنّ إضعاف حزب المؤتمر الأفريقي كما تسعى إليه أمريكا -وفقًا لبولسن- يتماشى مع الرغبة الإسرائيلية. ففي سياق تحليله لتداعيات الانتخابات الجنوب أفريقية، قدم الكاتب اليهودي، لازار بيرمان، في مقاله بصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” تزامنًا مع الانتخابات، نظرة استشرافية حيث يرى أن السيناريو الأمثل لإسرائيل يتمثل في تراجع دعم حزب المؤتمر إلى دون الخمسين في المئة من الأصوات، ما يُمكّن التحالف الديمقراطي من قيادة تشكيل ائتلاف يضم الحزب الشيوعي والأحزاب المسيحية. غير أن بيرمان أومأ إلى أن هذه النتيجة تظل مستبعدة في الواقع العملي.

 

أما السيناريو الأكثر ترجيحاً، بحسبه، والذي يعد بمثابة توقع أكثر واقعية لإسرائيل، فيتمثل في اضطرار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لتشكيل ائتلاف مع أحزاب تميل أكثر للاعتدال، والتي بوسعها أن تُلطّفَ من حدّة السياسات الجنوب أفريقية العدائية تجاه إسرائيل، مصحوبةً بإمكانية تغيير وزيرة الخارجية، ناليدي باندور، كواحدة من أبرز الأصوات المناوئة لإسرائيل في حزب المؤتمر.

 

في الختام، إنّه بغض النظر عن صدق التحليلات القائلة بأن تراجع أصوات حزب المؤتمر عائدٌ إلى تدخلات خارجية بتوظيف الثغرات الديمقراطية عبر تأليب مجتمع البطالة ضد الحزب، بل وبغض النظر عن أن مزاعم هؤلاء الخبراء مؤسسة على دلائل موضوعية ومعقولة، تبقى حقيقة واحدة وواضحة، وهي أن أية حكومة يقودها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، منفردا أو عبر ائتلاف، ستظل تحمل بصمات العداء تجاه إسرائيل في جوهرها. ومن المتوقع أن تبقى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في حالة جمود، مع إمكانية وجود بعض التغيرات الطفيفة نحو موقف أقل عدائية في ظل حكومة ائتلاف. لكن الجلّي أنّه، سيستمر حزب المؤتمر في تبني موقف صارم تجاه إسرائيل لأنه جزء من حمضه النووي، لما تستحضره ممارسات إسرائيل وجرائمها وممارساتها لأشكال من الفصل العنصري في المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، من ذكريات عهد الأبارتهيد والقمع الذي شهده المجتمع الأسود في جنوب أفريقيا على يد الأقلية الأوروبية الاستعمارية.

أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.