في ذلك الصباح البائس، سقطنا، سقط الكثير، الجنود، والجنديّة، والأعلام، والبلاد، والأرض، والعرض، والشرف الكبير، احتُل الأقصى، راحت القدس، راحت غزة، راح الجولان، راحت الضفة، وراحت سيناء، بينما كنا في الوقت ذاته، بحسب الإذاعة، نستعد للصلاة في قلب تل أبيب، حتى لحظة الصدق الوحيدة التي كان من الممكن الخروج بها من الحرب، بأننا هُزمنا وسُحقنا على مدار ستة أيام، من عدوّ أدنى من أي جيش عربي حقيقي، راحت، فقتلونا مرتين، بالهزيمة وسوء التخطيط والخيانة تارةً، وبالكذب تارةً أخرى!
ذلك الكيان الدخيل الذي بلغ ما بلغ بعد خمسين عامًا من بدء النكسة، وعلى الرغم من تلك القوة الهائلة لديه، فإن بقعةً صغيرة ضئيلةً احتلها وهي في حماية الجيوش العربية ذلك اليوم، مرغت أنفه بالتراب ذات صبحٍ قريب، بحيل بسيطة، مثل الصدق، والإيمان، والسلاح الأقل بكثير، والفكرة والتخطيط، والولاء للأرض التي يرابطون تحتها ويقاتلون فوقها، دون اقتران ذلك بمنصب ولا عرش، ولا تفكير متوحّد حول الذات الرئاسية، ودون اختيار الحاشية على حسب القافية، في نظم الغزل للبلاط الحاكم، ودون مذياع يمتهن الكذب ليل نهار، ويتفنن في تخدير الشعوب المُنوَّمة.
حين كان أحمد سعيد يمسك بالميكرفون ويخبر العرب في الإذاعة أننا نقصف تل أبيب ونقترب من انتصار تاريخي ومن إزالة إسرائيل نفسها من الوجود، كان أسرانا من قوات الكوماندوز يُحرقون أحياءً ويدفنون في “اللطرون”، وكانت مدننا العزيزة ترتفع فيها أعلام العدوّ الجبانة، وكان الأقصى مشدوهًا مما يرى، يتفقد المصلين والجنود ويسأل بالعربية “وينكم؟”، فلا يرى في الأرجاء إلا جيشًا يتحدث العبرية، يغرس فيه كل طعنة وطعنة بسرايا راياته وألويته.
ورحل أحمد سعيد وبقي المذياع يتحرى الكذب، يخبرنا اليوم بأن شأن غزة يخصها، وتلك الدماء دماؤها وحدها، وذلك الجوع فيها لا يعضّ إلا أمعاءها، وكل العربدة الإسرائيلية في أرضها لا تمسنا نحن بسوء، نحن الجيران والأهل والإخوة والطوق والمحيط، ولكن قضية الاحتلال ليست قضيتنا، لأننا أصحاب سيادة، ولو اغتصبوا الشريط الفاصل، ولو أمرونا بدق سياج أكثر توغلًا في رحم الأرض، ولو رقصوا بدباباتهم في مشاهد مستفزة على الحدود، ولو قصفوا نقاطنا واحتلوا معبرنا، سيخبرنا إعلام الدولة أن الدولة بخير، وأننا نعاني حساسية و”تروما” تاريخية مما نرى، لأن “إسرائيل” دولة تؤدب قطاعًا متمردًا لم يستأذنّا حين أراد المقاومة، ولم يطلعنا على الخطط مبكرًا، وإنما ورطنا مثل صبيٍّ مشاكس مع جيراننا المحترمين!
في أيام النكسة خرج الاحتلال بانتصار حقيقي يرفع علمه في أراضينا الغالية على أطراف الحدود، لكنه اليوم وياللعجب يرفع أعلامه ذاتها في قلب عواصمنا، وفي خواصر بلداننا، بينما يُمنع المحتجون من الاقتراب منها أو مسّ مبانيها كأنها حرَم مقدّس، بينما لا مشكلة أبدًا، وبكل رحابة صدر، أن يدنسوا الأقصى نفسه كل أسبوعين، وأن يسبوا النبيّ، وأن يفعلوا فوق ذلك كله الأفاعيل بأهل البلاد، اغتيالًا وقصفًا ومجازر ومنعًا وحواجز وسجنا وتصفية وإعداما، لكن المهم، ألا تُمسّ سفاراتُه في عمقنا العربيّ!
سبعة وخمسون عامًا مرت منذ ذلك اليوم، ورغم الانتصار الذي أعقبها ثم فُرط فيه، ورغم ما عاد ولم يعد، ما رُد إلينا شكليًّا، وانتزعت منها سيادتنا عمليًّا، ما ضُحك به علينا في لعبة العصا والجزرة، فإن النكسة، يا قومي، ما زالت مستمرة كما هي تمامًا، تبيع غزة مرةً أخرى، وتنهزم على حدودها مرات، وتبيع الضفة للسارق نفسه مجددًا، تسلمه المفتاح وفوقه وردة وقبلة، وطريقًا مفروشة بالورود، وتبيع الأقصى، والقدس، جاهزين للتدنيس دون أن ينبس أحد بكلمة، أو ربما لا يفعل إلا نطق الكلمة في بيان مقتضب، مقصوصة الأجنحة بالكثير من مقصّات الدبلوماسية الرخيصة.
سبعة وخمسون عامًا من النكسة، وليس على النكسة، أي إنها لم تنتهِ، وإنما بدأت واتصلت حتى اليوم، النكسة التي جعلتنا عراةً من كل شيء، من وطنيتنا ومن وطننا، من مبنانا ومن معنانا، من أرضنا ومن عرضنا، ذلك الإرث الثقيل من العار، الممتد لما خلف الأزمنة والأمكنة، يفرط كل يوم في قطعة جديدة، لمشترين جدد، بأسماء وألسنة مختلفة، لكنها في النهاية تصب في حساب زعيم العصابة نفسها، الذي يطمع كل يوم أن يزيد، كأن خارطتنا “بنك الحظ”، وهو يلعبها وحده، بأوراقها كلها، فيستفرد بالبنك الثريّ، ويترك لنا الحظ التعيس.
سمّوها نكسةً لتخفيف آثار الفاجعة، لن يجرؤ أحد على قولها في جملة واحدةٍ، أننا فقدنا نصف أراضينا ذات ليلة، دون أن ندري، وأننا فقدنا عشرات الآلاف من خيرة شبابنا وزهور أوطاننا خلسةً في وضح النهار، فجعلوها “نكسة” في إطار تخفيف “آثار النكسة”، كأنها مجرد انتكاسة في مسيرة ممتدة حافلة بالإنجازات والنصر، لكن أي نكسة تلك التي تمتد لستة عقود؟ وأي أرض تتحمل انتكاسةً أطول من يوم واحد؟ وأي كائن يستطيع البقاء على أجهزة التنفس الاصطناعي في غيبوبة كاملة لمدة ستين سنة؟
لم تمضِ النكسة ذلك اليوم، ما زالت محدقةً بنا، وما زلنا عالقين داخلها، بينما بعض الأراضي المسلوبة مثل غزة، تمحو عار ذلك اليوم بيديها، رغم أنها لم تتورط فيه بنفسها ولم تنهزم بفعل يديها، وإنما بوصاية الأشقاء، فسعت أن تغسل عار الخامس من يونيو بتواريخ أخرى، زاخرةً بالشرف والمروءة والسموّ، مثل السابع من أكتوبر!
الحقيقية الجليّة، للأسف وللألم وللقهر، أن النكسة مستمرة، ما دامت النكبة مستمرة، ما دامت الخيبة العربية الكبرى مستمرة، بينما يحاول قوم استثنائيون أن ينفوا عن أنفسهم عار ذلكم كله، وحينها يغرس الذين قبلوا الذل كل صباحٍ في هزيمة جديدة، ومع كل انتصار ليس جماعيًّا، تُركوا يدفعون ثمنه وحدهم، فإن الأذلة من أقوامنا يوقعون في كل عام عقد تجديد النكسة، واليوم هي ذكرى مرور 57 عامًا على تلك الشراكة العتيقة، في تدميرنا نحن، وحدنا.