في الأيّام الماضية، توالت أنباء استشهاد زملاء أعزّاء في المعتقلات المصرية، من كلّ التيّارات، واحدتهم سجينة جنائيّة روسيّة أنهت حياتها انتحارًا بسبب ظروف حبسها “اللا إنسانيّة” لا قدرًا كما أؤمن، إنّما قتلاً تختلف صوَره وأدواته، ويبقى القاتل واحدا في المعتقل، وفي عموم الوطن.

 

هذا النصّ كُتبَ داخل المعتقل، عن وقائع حدثت لي شخصيًّا، كما شهدت على غيرها لعشرات الزملاء، لعلّه يقول بصورةٍ ما شيئًا عن الموت/القتل في المعتقل.

 

– 1 –

 

أحمل أقراص “العلاج الدوري” في يدي، وأدخل التريّض، يقابلني جاري -تاجر المخدرات- ويسألني عنها مطمئنًا، يفزع لرؤيتها ويقول:

 

لا أتذكّر حوارنا ذاك، إلا وأنا أمام الطبيب ذاته، أشكو له من أثر الدواء” :بفكّر في الموت كتير، مسيطر على ذهني أفكار انتحاريّة طول الوقت؛ إلغي لي الدوا ده واكتب لي بديل”. تمام .ثم في طريقي لصرف البديل، أطالع الوصفة فأجده ضاعف ذات الدواء، الذي اشتكيت من أثره .

 

أعود له، غير مستوعب، أقول لنفسي: لعلّه أخطأ أو نسي .بسذاجةٍ مفرطة لا أتصوّر قصدًا محتملاً في تصرّف كذلك. تظنّ نفسي -وهذا الظنّ إثم- أنني سألقى بينهم شريفًا، لمجرّد ارتدائه البالطو الأبيض (الأطبّاء في المعتقلات ضبّاط كذلك، ويمكنكم معرفة إلى أيّ الانتماءين ينحازون)، ظنٌّ دفعتُ ثمنه من صحتي وسلامي طوال السنين الفائتة ،وما زلت  أنبهه للخطأ ؛ فيرد ببرودِ قاتلٍ محترف : “ياعم ما تكبرش الموضوع  طالما أفكار بس، ما انت قدامي زي الفل أهو “.

 

-2-

 

أمام طبيب نفسيّ آخر، أكثر وقاحة وعداءً هذه المرة، يعجز عن إخفاء كراهيته لشخصي ولما أحمل في رأسي من أفكار وقناعات، يضع دبوسًا بشعار الشرطة على صدره، كان جالسًا وراء مكتب وبجواره مأمور السجن وخلفهم ضابط آخر فهمتُ أنّه من أمن الدولة.

 

أجروا مجموعة مكالمات مشتركة بعد مشادّة كلامية وزعيق، كانوا يتبادلون الهواتف ، ثم في النهاية انصرف الضباط وأحضروا كرسيّا. أسخف حوار يمكن تصوره بين طبيب ومريض، كان يحاول إثبات هزيمتي بوقاحة،  وأحاول إثبات مقاومتي بعناد، وَصَف الدواء، وانصرفت .

 

بعدها بشهور، يُضاعف لي جرعة دواء سبق أن وصفه من قبل، يخط في تذكرتي الطبية 150جراما من الدواء .كنت تواصلتُ مع طبيبٍ أثق فيه بالخارج، عبر أسرتي، وقال إذا وصف لك 150جرام، فهو يقصد إيذاءك، فتوقف عن تعاطي الدواء فورا وسنحاول تهريب بديل لك بجرعات مناسبة.

 

-3-

 

زاعقًا كنتُ على باب العنبر، يقبل ضابط الأمن الوطني نحوي وهو يسأل:

 

ظلّ الدواء ممنوعًا لأكثر من ثمان شهور، لولا ما هربه لي جيران من جرعات أنقذتني كثيرًا من نوبات قلبية، أو هلعيّة!

 

-4-

 

الموتُ كمكافأة نهاية الخدمة لا يُستعجل تخلّصًا من ثقل الدور، انتحارًا، ولا يُستأخر جبنًا أو فِرارًا. هكذا كنتُ أراه غالب عمري، لا أخشاه، ولا أتمناه، ولا أحسب خطواتي على حساب المسافة بيننا.

 

سيأتي حين يأتي ، وسأسألُ نفسي -أو يسألني الله- عن الطريق والطريقة؛ هل كان ختامًا لرحلة مجملها شريف؟  هل كان على صورة لائقة بالثائر، وبالإنسان؟ لم أكن أفكّر في قسوة خطفه للأحبة والوجع الذي يخلّفه الفقد .وقد أوجعني وما زال، لم يكن كبيرًا يصغر بل عملاقًا يتوحّش وينهش .

 

عدم استحقاقه في لحظات المجد، في فلسطين وفي التحرير، مع من صعدوا بعدما تفتّتت أجسادهم برصاصات الغدر وقذائف الـ F16 . أراجع كل نيّة وقصد ، لأفهم سبب فوات فرص الاصطفاء مع المصطفين من الرفاق الشهداء، أعرفُ أنه خللٌ فيّ حيث استحقاقي الشهادة، خلل أعقد من مجرّد الـ(Survivor guilt)  شعورًا بالذنب، أو مظنّة النجاة أصلاً. ولا أقدرُ على إقناع نفسي بأن فرصةً أمجد قادمة .

 

لا أعرف، ولو نظريًّا، أشرفَ من ثورة على الظلم، ومقاومة الاحتلال، كنهاية لائقة . صحيحٌ أنني كنتُ -وما زلت- لا أفضّلُ الموت على يد مصريّ، ولو كان قاتلاً طاغية. هذه ميتة مزعجة، قتلة لن أجرؤ على الابتسام عند الصعود بها، مهما اعتقدتُ في جلال الصعود على سلّم الحق إلى سماوات الحريّة.

 

لكنّها فاتت على كلّ حال، فاتت ولم أظن للحظة، ولا ظنّ أحد من الرفاق الأقربين، أنها قد تفوت .وفاتت الأخرى في فلسطين، وقد تماسّ ظلّانا أكثر من مرّة. اغتسلتُ عشرات المرّات غسلة الذهاب إلى الموت، سجّلت وصيّتي قبل كل خروج ميدانيّ، ودعتُ الرفاق وودّعوني. استُهدف الركب، المنزلُ، المنطلقُ، استُهدِف المشفى، لم ينجُ أحدٌ كنتُ معه، ونجوت. لم ينجُ حيّزٌ كنتُ فيه، ونجوت. ثم بعد هذا كلّه، يأتيني في رداء الأطباء/الضباط، أو الضباط/القتلة .

 

“يا موتُ ما أحقرك !

أنا واقفٌ ردّ من ناظرك

أتستمرئ الهزءَ، والاختباءَ

وراء العساكر كالعاهرات

أهذه حدود سمائك حقًا يا ابن السماء؟

تحالفُ سجّاني ابن الزنا لتُغير عليّ؟

فكّ العصابة عن أعينِ الحالِ، حتى أراك.

وفكّ قيودي حتى تراني أصفعُ هزأك بي، بيدي.”¹

أبهذه الخسّة والدناءة تحاول؟ وأنا هنا، مقيّدٌ سجين؟

كنت أحملق في عينيك، في وجهك، ولم تفعل. الآن تأتي متخفّيًا وراء هؤلاء؟!

هنيئًا لك معهم هذا الجسد الضئيل/الفاني

وسنرى..

من ينتصر-حقيقةً- في الختام!

   

¹ مقطع من ديوان “حلم تخثّر في الأوردة”، لأحمد دومة.

أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.