تبقى في ذاكرتي صورة ذاك الطفل العاق، الذي ما إن دخلتْ والدته المتعبة غرفة العناية المشددة، حتى ركض ليسرق من حقيبتها ما لم يكن له، وكأنّ الزمن كلّه توقف عند تلك اللحظة من الخيانة الصامتة. ولدت هذه الصورة في مخيلتي عند مشاهدة صور مجزرة عين دقنة في ريف حلب الشمالي عام 2016، حين غدرت وحدات حماية الشعب PYD بعناصر الجيش الحر، وحملت جثثهم على الشاحنات، وجالت بها شوارع عفرين متفاخرة، وكأنّها تكسر قلب الثورة اليتيمة التي خرجت منادية “حرية، آزادي”.

استغلت تلك المليشيا معاناة الثورة تحت وطأة القصف الروسي، وخنجر داعش المسموم، وضربات نظام الأسد، لتتمدد، معلنة عن مشروعها الخاص. تلك الصورة الصغيرة للطفل الغادر تختزل تاريخها كلّه: خيانة، استغلال، وعداء صامت لكلّ من حلم بوطن حر.

ومن رحم هذه الممارسات ومرتكبيها، وُلد ما يُعرف اليوم بقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بدعم من التحالف الدولي، لتغطي بغبار القوة العسكرية والغدر المشروع السياسي الذي لم يكن يوماً أكثر من مسرحية استعراض، تحاول أن تخفي خلفها واقعاً من الانتهاك والاستغلال لكلّ من هو تحت سيطرتها.

وفي الأمس، عادت الذكرى لتتجسد في حيّي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، حيث بعد إعلان الاتفاق بين الحكومة السورية ومليشيا قسد في آذار الماضي، القاضي بانسحاب الأخيرة من الحيين، رصد الجيش نفقاً يربط مواقع داخل الحيين بمكان خلف مواقع الأمن العام في محيط حي الأشرفية، بهدف تنفيذ اعتداءات وعمليات تسلل مسلحة. لم يتردد الجيش في التعامل مع هذا التهديد ففجّر النفق، وأعاد الانتشار حول الحيين، فيما قام الأمن الداخلي بنشر الحواجز لمنع تسلل مقاتلي قسد إلى الأحياء السكنية.

غدرت قسد كعادتها، واعتلى عناصرها أسطح المباني وقنصوا عناصر الأمن، وأطلقوا قذائف الهاون على الأحياء المحاذية، مجددين ذكريات السوريين المريرة، التي زرعها نظام الأسد في وجدانهم.

وتأتي هذه الاعتداءات والاستفزازات في سياق واضح: محاولة جر الحكومة إلى معركة مفتعلة، تستخدمها قسد لإفشال أي اتفاق مزمع، وإبقاء نفوذها مسيطراً. فقد اجتمع المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم باراك، بالأمس مع قيادات قسد في الحسكة، ضاغطاً عليهم لتنفيذ بنود اتفاق العاشر من آذار الذي سبق أن وقّعت عليه المليشيا، في محاولةٍ لفرض إرادتها السياسية والعسكرية على الأرض، بينما يبقى المدنيون والشعب السوري ضحايا لتلك المناورات العابرة للحدود.

وهناك، في الشرق المنسي، تواصل مليشيا قسد وأذرعها الإرهابية، المتمثلة بمجموعات “الشبيبة الثورية”، ارتكاب الانتهاكات في محافظة الرقة الواقعة تحت سيطرتها. فقد شنت قواتها خلال الأسابيع الماضية حملات تجنيد إجباري للشباب، واقتحمت المعاهد التعليمية خاطفة الأطفال من مقاعدهم الدراسية، حاملين حقائبهم على ظهورهم، لتزج بهم في أيّ معارك قادمة. وفي الأمس، جال شبيحتها شوارع المدينة مسلحين، ناشرين الخوف والرعب بين السكان، ليؤكدوا مرة أخرى أنّ الأرض التي يقفون عليها ليست إلا مسرحاً للبطش والإرهاب، وأنّ كلّ يوم يمر تحت سيطرتهم، هو يوم آخر من استغلال القوة وإرهاب الأبرياء.

ما يميّز قسد ليس مجرّد استغلالها للفراغ الأمني والسياسي، بل الطريقة التي توظف بها وجودها لتحقيق أجنداتها الخاصة، مستغلة الكرد السوريين كأداة، متجاهلة حقوقهم ومصالحهم، ومتسببة في إلحاق الضرر بهم وبأشقائهم العرب على حد سواء، ليزيد الشرخ بكلّ حركة غدر وقذيفة ترمى على رؤوس المدنيين. لقد أرهقت الانقسامات المجتمعية التي زرعتها، وابتعدت عن أيّ التزام بالقضية الكردية الحقيقية، لتصبح أسوأ ممثل لها، بينما تُفرض كقوة مسلحة قائمة على الغدر والاستغلال، لا على الحقّ والعدالة، تاركة وراءها أثراً من التفرقة والخيانة في جسد الوطن.

الأكراد والعرب في سوريا أبناء وطن واحد، عاشوا وتعايشوا على هذه الأرض منذ قرون، وكانوا دائماً ضحايا سياسات الأسد، كما وقعوا ضحايا جرائم تنظيم داعش، والآن يجدون أنفسهم مضطرين لمواجهة خيانة قسد. هذه المليشيا، التي نشأت مدعومة بأجنداتٍ خارجية، لم تهتم يوماً بالهوية الوطنية أو بالاستقرار الداخلي، بل عملت على تمزيق النسيج الاجتماعي في المناطق التي تسيطر عليها، وتهميش العرب، وتوظيف الأكراد كأدوات في صراعاتها الخاصة.

وقد تكون الأمنيات كبيرة إلا أنّها لا حدود لها، في يوم يعيش فيه السوريين بمختلف قومياتهم ودياناتهم وطرائقهم، في وطن لا يعرف الخوف ولا الغدر ولا المشاريع العابرة للحدود، فهم حجارة هذا الوادي، وكلّ موت أخذ من دمائهم دون أن يفرق بينهم، سيبني حدود لوطن فوق كلّ المليشيات وإرهابها.

فالتاريخ يشهد، أنّ قسد، منذ تأسيسها وحتى اليوم، لم تكن أكثر من مليشيا غدر. استغلت مخاوف الكرد من انتهاكات داعش التي طالت كلّ من خالفها من عرب وكرد، كشماعة لترهيبهم من أن أيّ غدٍ دون وجودها سيكون مراً. فقصفت الأمنين وجندت الأطفال واعتقلت الشباب وحفرت الأنفاق لإشباع مصالحها الضيقة، بعيداً عن أيّ التزامٍ بحقوق من تدعي الدفاع عنهم.

أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.