في المقال الثاني، والمتناول لقضية ما إذا كان التقارب الحديث بين دول الساحل الأفريقي والقوى الشرقية يُمثل “استعمارًا جديدًا” كما يُزعم في الأوساط الغربية أم لا، سنستعرض بعناية الأسباب الجوهرية التي أجبرت هذه الدول على تغيير مسار تحالفاتها.
المبدأ الأول في علوم السياسة يُشير إلى أن الدولة، في جوهرها، تسعى أولًا وقبل كل شيء إلى ضمان بقائها واستمراريتها. كل ما يهدد هذا البقاء يُعتبر، من منظور الدولة، تهديدًا وجوديًا يستوجب تدابير استثنائية. وفي هذا السياق الذي سأتناول أولًا العلاقات التقليدية بين الساحل والغرب. ثم، سننتقل لفحص الروابط الجديدة التي تم تكوينها مع الشرق، محللين الفوائد التي يتوقع أن تجنيها دول الساحل من هذه الشراكات في مجالات الأمن، الاقتصاد، والسياسة.
– 1 –
في السياق الأمني، تشهد القارة الأفريقية -وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي- تضاعفًا ملحوظًا في عدد العناصر الإرهابية، وهو ما صرح به الجنرال مايكل لانجلي، رئيس القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم). فبحسب الإحصائيات التي قدمها، كانت نسبة الإرهابيين في أفريقيا تمثل 4٪ فقط من إجمالي الإرهابيين على مستوى العالم في عام 2008، بينما قفز هذا الرقم إلى 40٪ في الوقت الحاضر، ما يمثل زيادة بمعدل عشرة أضعاف خلال فترة خمسة عشر عامًا. هذا الارتفاع أتى في أعقاب سقوط نظام القذافي في ليبيا بيد حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مما جعل منطقة الساحل الأفريقي “بؤرة الإرهاب” للنشاطات الإرهابية بعدما كانت سابقًا تصنف كـ “منطقة انتشارٍ” فقط، حسب مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023. وأدى ذلك إلى تصنيف دول مثل النيجر، بوركينا فاسو، مالي، ونيجيريا، وحتى أفريقيا الوسطى، ضمن قائمة الدول الهشة.
توجهت هذه الدول إلى حلفائها الغربيين، فنشرت فرنسا قواعدها العسكرية في المنطقة من خلال عملية سيرفال تلتها عملية برخان، مع ذلك كان تدخلها في مكافحة الإرهاب محدودًا للغاية. من جانبها، أقامت الولايات المتحدة أكبر قاعدة جوية للطائرات المسيرة في جمهورية النيجر معلنًا أنها تود مساعدة النيجر في مكافحة الإرهاب، وبعد خسارة أربعة من جنودها في منطقة تونغو تونغو غربي البلاد عام 2017، امتنعت عن المشاركة المباشرة في القتال واحتفظت بالمعلومات الاستخباراتية التي تجمعها طائراتها لنفسها.
في سياق التسليح، كانت الأسلحة المقدمة لدول الساحل لمكافحة الإرهاب بدائية وغير متطورة، وهو ما أكده رئيس الوزراء المالي، شوغال كوكال ميغا. بينما كانت التنظيمات المتطرفة تتسلح بأسلحة جوية وطائرات مسيرة من السوق السوداء. في حالة أفريقيا الوسطى مثلاً، فرضت الأمم المتحدة، بتحريض من فرنسا، حظر أسلحة على البلاد عقب اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، بزعم أن الجيش الأفرووسطي قام بمجازر ضد المتمردين، وكان الحركات المتمردة تزحف نحو العاصمة بانغي حينها.
في بوركينا فاسو، أكد الرئيس إبراهيم تراوري أنه بوجود الحلفاء الغربيين كانت البلاد في حالة تسلح ضعيفة لدرجة أنها كانت تعير الأسلحة من دول الجوار لمقاومة الإرهابيين وتُعيدها بعد الاستخدام. في نفس الوقت كان السياسيون من حلفاء فرنسا ووزراء الدفاع في النظام السابق يختلسون ميزانيات الدفاع، وعند حدوث انقلاب أو ثورة ضدهم، يُعتبر ذلك تقويضًا للديمقراطية، بينما يُقتل المدنيون الأبرياء بالمئات يوميًا.
أحد الأمثلة المثيرة في هذا الصدد أنه في الفترة من 2014 إلى 2017، طلبت مالي من شركة داسو الفرنسية للطيران طائرات رافال المقاتلة لصد تقدم التنظيمات الإرهابية. على الرغم من أن النظام المالي قد دفع مبالغ كبيرة لهذه الطائرات باهظة الثمن، رفضت فرنسا تسليمها بحجة معايير إنسانية مزعومة وقلق من استخدامها ضد أطراف معينة.
نتيجة لجميع ما سبق، خسرت بوركينا فاسو ثلثي أراضيها، وبقيت العاصمة واغادوغو ومدينة بوبو ديلاسو، ثاني أكبر المدن، فقط تحت سيطرة الحكومة. كما فقدت مالي نصف أراضيها للمتمردين والجهاديين من تنظيم القاعدة وداعش بغرب أفريقيا. كل هذا يحدث بوجود ما يسمى بالحلفاء الغربيين. وفي عام 2017، عندما قررت هذه الدول إنشاء قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب تحت مسمى “مجموعة الساحل الخماسية” بقيادة فرنسا وبميزانية مطلوبة قدرها 450 مليون يورو، كان من المفترض جمع 150 مليون دولار في البداية. ومن الجدير بالذكر أنه حتى تاريخ انسحاب دول الساحل من القوة المشتركة عقب الانقلابات، لم تنجح فرنسا وحلفاؤها في جمع المبلغ المطلوب.
ففي ظل هذه التحالفات التي أثبتت بأن الغرب كان يسعى فقط لحماية مصالحه في غرب أفريقيا بقواعدها العسكرية، من خلال أهداف كمنع الهجرة ومراقبة الأوضاع في ليبيا من النيجر وكبح جماح نفوذ خصومه، وجدت دول الساحل نفسها مدفوعة للبحث عن حلفاء أكثر التزاماً في القتال ضد الإرهاب. هذا الواقع هو الذي أوضحه علي لامين زين، رئيس وزراء النيجر، في تصريحه قائلاً: “أبدًا لم نكن حلفاء حقيقيين للغرب؛ فقد لاحظنا الدعم القوي الذي قدموه لأوكرانيا، التي تلقت أكثر من 100 مليار دولار في أقل من عامين من الصراع، مصحوبة بأسلحة متقدمة ومدمرة، بينما لم نتلق نحن حتى الطائرات المسيرة البسيطة من الغرب خلال عشر سنوات. ناهيك عن عجز تخصيص مبلغ 150 مليون دولار فقط لدعم قواتنا المشتركة، وهو ما يُمثل نسبة ضئيلة، 0.15%، من الأموال التي تم تجميعها لدعم أوكرانيا”.
– 2 –
في التعاون الاقتصادي مع الغرب، تتجلى الحالة النيجرية كنموذج مفعم بالدروس والعبر، النيجر التي منذ عام 1958 تحتكر فرنسا إنتاج اليورانيوم في أراضيها، وذلك قبل استقلالها بسنتين، مما يعكس استمرارية النهب دون وجود ضوابط أو شروط ملزمة. واصل الأمر على ذلك النحو، حتى وصول الرئيس مامادو تانجا للسلطة في النيجر عام 1999، وبرز لديه هاجس ملح بمعالجة الانتهاكات الفرنسية الجسيمة، التي كانت تُمارس عبر شركة أريفا، خاصة فيما يتعلق بنهب الثروات الطبيعية لبلاده، الواقعة ضمن أفقر الدول على سطح الأرض.
لإفشال مساعي تانجا، قامت شركة أريفا بتمويل تمرد الطوارق، بهدف استنزاف موارد النيجر الاقتصادية في الحرب وإجبار الحكومة على العودة إلى مائدة المفاوضات مع الشركة. بَيْدَ أن تانجا، مدركًا لهذه الاستراتيجية، قام بطرد مدير أريفا في النيجر واختار التفاوض مع المتمردين لإنهاء التمرد بدلاً من القتال.
وبغية تسليح نفسه بمعلومات كانت غائبة عنه، طرح تانجا سؤالاً محوريًا: كم تدفع أريفا لكندا وكازاخستان مقابل اليورانيوم؟ علمنا لاحقًا من الأرشيف، ووفقًا لتقرير نُشر في مجلة “Le Journal de l’Energie” بتاريخ 31 يوليو 2015، فإن أريفا تعمل في النيجر منذ عام 1958 ولم تدفع على مدى 60 عامًا أكثر من 27,000 فرنك أفريقي (قرابة 40 دولار) للكيلوغرام الواحد من اليورانيوم، ولم تدفع أيضًا رسوم امتياز أكثر من 5.5%. كما، استفادتْ من موقعها الاحتكاري للاستفادة من إعفاءات ضريبية كبيرة. في المقابل، في كندا، وفي كازاخستان، دفعت أريفا ما يصل إلى 131,000 فرنك أفريقي (213 دولار) لكل كيلوغرام مع إتاوات ضريبية تصل 18.5%. وهذا الظلم ما رفضه الرئيس تانجا، فثار، لتُدبّر فرنسا انقلابًا عليه بقيادة صالو جيبو عام 2010.
وأوضح التقرير أن فرنسا استفادت بشكل كبير من تفاوت أسعار البيع بين النيجر وكازاخستان، ومن تهربها الضريبي في النيجر، لتجني ما يقرب من 480 مليار يورو في الأربعين عامًا الماضية، وهو رقم يقل بقليل عن إجمالي الناتج المحلي للنيجر منذ استقلالها حتى تاريخ التقرير. رغم ذلك، لم تُقدم فرنسا على بناء أي بنية تحتية أساسية كالطرق الرئيسية، أو مستشفيات عامة، أو مؤسسات علمية راقية، أو محطات لتوليد الكهرباء تُعيد بعضًا مما نهبته إلى النيجر.
كما أظهر التقرير بأن اليورانيوم المستخرج من النيجر كان مصدرًا لإنارة فرنسا، بل تعدت فوائده إلى تخزين الطاقة وبيعها بمئات الآلاف من الميغاوات لدول الجوار الأوروبية، مدرّة أرباحاً بالمليارات من اليورو. وفي المقابل، يكشف تقرير حديث صادر في عام 2023 أن نسبة تصل إلى 94% من سكان النيجر لا تزال تعيش في ظلام دامس بلا كهرباء.
– 3 –
وعلى الصعيد السياسي، كشف تقرير صادر عن أكاديمية بوغالا في عام 2020 أن فرنسا كانت وراء اغتيال 22 رئيسًا أفريقيًا منذ العام 1963، وذلك بعد فترة قصيرة من استقلال دولهم، فقط لأنهم حاولوا التمرد على سيطرتها ونفوذها الاستعماري. بالإضافة إلى ذلك، نظمت فرنسا انقلابات ضد حوالي 41 رئيسًا أو رئيس وزراء، دون أن يتم فتح أي تحقيق جدي في هذه الأعمال، سواء على المستويات المحلية أو الدولية، مستغلة مكانتها كعضو دائم في مجلس الأمن لمنع أي تحقيق دولي حول هذه الاغتيالات والأفعال. هذا ملخص موجز لبعض ما أفرزته العلاقات بين دول الساحل والغرب.
ختاما؛ إن الأوضاع الذي أفرزناه أعلاه هو الدافع الأساس الذي يجبر دول الساحل على توجيه أنظارها شرقًا بحثاً عن شركاء جدد يَعِدُون بمزيدٍ من الإنصاف والتعاون الأمثل. الصين في التعاون الاقتصادي، وروسيا تقدم الدعم في المجال العسكري والأمني، بينما تركيا تساهم في التسليح.
وفي القسم الثالث والأخير من سلسلة هذا المقال، سنستعرض كيف أدى هذا التحالف الجديد مع الشرق إلى استعادة الساحل لأجزاء واسعة من أراضيها، بفضل التكنولوجيا المتقدمة لطائرات مثل أكنجي وبيرقدار التركيين. السجل الذي سنعرضه يُظهر، بعيدًا عن المثاليات والعاطفة، أن خمس سنوات فقط من التعاون مع الشرق كفلت بناء مطارات جديدة وأكبر مستشفى في غرب أفريقيا، واستعادة السيادة على مناطق استراتيجية، فضلاً عن اتفاقيات أسفرتْ عن بناء أنابيب النفط والغاز التي تقدم شروطًا أكثر عدالة -وفقًا للخبراء- مقارنة بتلك التي كانت تقدمها الدول الغربية، مع ذكر ما تجنيه دول الشرق أيضًا من الساحل، فالدول – في العلاقات الدولية- ليست جمعيات خيرية، وهي حقيقة سياسية لا يفهمها المثاليون.