يظن المشاهد والمتابع لتصريحات و بيانات المسؤولين الأممين حول السودان تخفي خلفها اهتماماً عميقاً بالوضع في السودان، و أن عبارات إبداء القلق التي يطلقها الأمين العام للأمم المتحدة تشي بأن المنظمة الأممية تدفع بكل ما لديها لإيقاف الحرب، أو على الأقل تخفيف معاناة السودانيين.
في مؤتمره الصحفي في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2024، و بمناسبة مرور عام من الحرب، حذر الأمين العام للأمم المتحدة بأن العالم قد بدأ ينسى الأزمة السودانية. وقد أرفق غوتيريش حديثه بالأرقام المفجعة حول حالة الأمن الغذائي، و حوجة حوالي نصف السكان للمساعدات الإنسانية، ونبه العالم والمانحين بأن المبالغ المرصودة لدعم العمل الإنساني،داخلياً و خارجياً، لم تتجاوز حاجز ال6% و ال7% على التوالي. رغم صدق الأرقام، لكن الأمين العام كان بحاجة لتوجيه الخطاب لمنظمته، والتي -كما العالم- بدأت تنسى السودان، ولعل ما يحدث بخصوص بعثة تقصي الحقائق يمثل نموذجاً.
في العام الماضي، وبالتحديد في الحادي عشر من تشرين الأول/أكتوبر، أصدر مجلس حقوق الإنسان قراره رقم 54/2، والمعني بالاستجابة لأزمة حقوق الإنسان والأزمة الإنسانية الناجمة عن النزاع المسلح الدائر في السودان. وقد نص القرار على تشكيل بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق في السودان، لفترة أولية مدتها عام فقط، وتقع تحت ولاياتها العديد من المسؤوليات أهمها: التحقيق في جميع الانتهاكات منذ اندلاع الحرب ومعرفة إثبات جذورها، الحصول على الأدلة حول هذه الانتهاكات والتجاوزات و تجميعها و تحليلها، تحديد هوية الأفراد والكيانات المسؤولة عن هذه الانتهاكات والتجاوزات، و تقديم توصيات من شأنها إنهاء الإفلات من العقاب والمساءلة.
ورغم أن القرار نص على تشكيل لجنة ثلاثية تتألف من ذوي الخبرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، و استخدم عبارات على شاكلة ” التعجيل” و “وفي أقرب وقت” و “فوراً” في تذكير لرئيس مجلس حقوق الإنسان حول حساسية الزمن؛ إلا أن الرئيس مجلس حقوق الإنسان،التشيكي فاكلاك باليك، استغرق أكثر من شهرين، بالتحديد في الثامن عشر من كانون الأول\ديسمبر 2023، ليعين الخبراء الثلاثة، وهم: محمد تشاندي ، و جوي إيزيلو، و منى رشماوي . ورغم أن البعض قد يلمح إلى إمكانية تمديد البعثة، لكن صدور القرار تم بفارق ثلاثة أصوات فقط، حيث صوت لصالحه تسعة عشر بلداً، عارضه ستة عشر بلداً، مقابل امتناع إثني عشر بلد؛ مما يجعل تمديد ولاية البعثة أمراً غير مضمون.
كان أعضاء اللجنة الثلاثة أكثر تمهلاً من رئيس المجلس؛ إذ لم تظهر اللجنة، ولا رئيسها ، محمد تشاندي، إلا بعد أربعة أشهر من تعيينها، في الحادي عشر نيسان/أبريل 2024، ليؤكدوا المؤكد بأن الأطراف المتحاربة مسؤولة عن حماية المدنيين، وضرورة تسهيل المساعدات بأمان و حرية للمدنيين. ولم تفت عليهم الفرصة لأبداء القلق من الهجمات التي يتم شنها على المدنيين والبنى التحتية. ومن ثم ظهروا مرة أخرى، بعد خمسة أيام، في فيديو مصور لمدة دقيقتين يتحدث حول البعثة.
و بحسب التشكيل المفترض للبعثة، كان ينبغي أن تتشكل من ثلاثة خبراء، وسبعة عشر موظفاً آخر يعملون تحت إمرة الخبراء. لكن الأمم المتحدة القلقة على السودان، لم تتمكن من تعيين أي موظف من هؤلاء السبعة عشر حتى آذار\ مارس 2024، وذلك حسب سارة جاكسون، نائب المدير الإقليمي لمنظمة العفو الدولية لمنطقة شرق وجنوب أفريقيا. كما أن الرسالة التي بعث بها أكثر من سبعين كيان حقوقي، في السابع عشر من أيار/ مايو 2024، لأعضاء و مراقبي مجلس حقوق الإنسان، بغرض طلب تمديد ولاية البعثة، كشفت عن تعيين تسعة أعضاء فقط، أي ما يعادل نصف العدد الذي تحتاجه اللجنة.
وحسب نص القرار 54\2، الذي بموجبه تشكلت البعثة؛ فعلى البعثة تقديم تحديث شفاهي لمجلس حقوق الإنسان في دورته السادسة والخمسين، يعقبه حوار تفاعلي، بالإضافة لتقرير شامل يقدم في الدورة السابعة والخمسين، ومن ثم يقدم هذا التقرير الشامل بعد الحوار التفاعلي الذي يضم ممثلي الاتحاد الأفريقي و بعض المسؤولين الأممين إلى الدورة التاسعة والسبعين من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
في الثامن عشر من حزيران/يونيو 2024، خلال أعمال الدورة السادسة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان، قدم محمد تشاندي تقريره الشفاهي. وقد ذكر أن البعثة عانت لأشهر طويلة بسبب أزمة السيولة المالية التي عرقلت بناء فريق فعال، وأن البعثة قد بدأت عملها من نيروبي الشهر الماضي، ولكن بعدد إثني عشر موظف فقط. وفي محاولته للإشارة على أن البعثة عملت منذ نشأتها، ذكر بأن المجلس أمدهم بعدد من الموظفين بصورة مؤقتة، كما أنهم قاموا بمحاورة ثمانين فرداً ضمنهم ضحايا، و شهود عيان وخبراء. و أشار إلى أنهم قد بدأوا المحادثات مع الحكومة السودانية والدول المجاورة لزيارتها.
هذه هي رحلة البعثة التي من شأنها البحث في انتهاكات مستمرة منذ أكثر من عام، و وتحديد المتورطين، وتقديم توصيات لضمان عدم الإفلات من العقاب، خلال مدة أقصاها أربعة أشهر. البعثة لم تبدأ عمالها بصورة عاجلة، ولم تستكمل هياكلها حتى اللحظة؛ فكيف يمكن أخذ مخاوف الأمم المتحدة على محمل الجد؟ أم أنها استعاضت عن الأفعال بإبداء القلق؟