في ميدان التحرير في قلب القاهرة المصرية عام ٢٠١١، كان هتاف المتظاهرين ضد إمبراطورية حسني مبارك واحدا في كثير من الأحيان، منصة واحدة، ولافتات واحدة، وحرص شديد على إخفاء الفوارق والتفاصيل، ونسيج واحد لا يزاحمه هوية شاردة أو رغبة منفردة.. لكن ما إن تختلي بأحدهم قرب خيمة أو عند زاوية حراسة، حتى تكتشف أن لكل منا غاية من وجوده وسط المتظاهرين، تشبه بصمة الوجه، لا تشبه أحدا غيره رغم زحام الميدان.

 

شخصيا، كنت أهتف ضد مبارك، لأجل غزة! كانت صورة وزيرة خارجية إسرائيل السابقة، تسيبي ليفني، وهي تتشبث بيد وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبو الغيط، لتعلن من قلب القاهرة بدء عملية عسكرية إسرائيلية ضد سكان قطاع غزة.. مشهد كنا نظن أنه سيسجل كأرخص موقف للقاهرة في تاريخها، إلا أن مصر اليوم ونظامها العسكري لم يترك بابا للمنافسة أو المقارنة.

 

هكذا، كانت غزة حاضرة في خاطري في كل هتاف حتى لو لم ينطق بها المتظاهرون. وحين أعلن مبارك تخليه عن منصبه، صعدت منصة الجامعة، وألقيت قصيدة كتبتها في الميدان قبل مغادرته، أتذكر أن مطلعها كان:

 

يا أهل غزة قد سقط ..

سقط الذي قد سامكم سوء العذاب..

الآن يأتيه العقاب..

الآن تلعنه الملائك والحجر..

والأرض والطرقات والتاريخ وجموع البشر..

الآن ياسين انتصر!

 

اللافت هنا، أنني -وكل الحاضرين في الميدان تقريبا- كنا نحمل روحا متفائلة بتغيير -ليس مصر وحدها- بل العالم بأسره.. كلما على نحو ما تجاوزنا حدود مصر في خروجنا ضد مبارك، كان ذلك إيمانا منا بدور مصر وأهميتها، وبقيمة ما نفعله، ودورنا وتأثيرنا.. كنا نرى أنفسنا أكبر من شعب، وبلدنا أكبر من بلد، وثورتنا أكبر من ثورة شعب ضد رئيس واحد. هذه ثورة يتغير لأجلها التاريخ!

 

كنا نحب باتمان، نرى أنفسنا فيه، بطل مقاوم شرس يحارب الأشرار ويقضي على الساعين في هدم أحلامنا وقرار مدينتنا الطيبة.. كنا نحن باتمان.. الأمل الأخير في جوثام المظلمة، والظهر المتين في وجه ذي الوجهين، والجدار الحصين أمام فوضى الجوكر ورفقاءه المحجوزين في أركهام.. والحاضر الدائم كلما “ضوء لمع وسط المدينة”.

 

لكن ما إن انهارت أحلامنا أمام عودة الأنظمة الاستبدادية ورسوخ أقدامها، وتشتتنا في بلاد الاغتراب والتيه وطوابير الزيارات والزنازين، وسجلات الأحكام وتاريخ انتهاء جواز السفر.. تخذلت أحلامنا من تغيير العالم إلى إنقاذ أنفسنا وأهلنا وعائلاتنا، وصار غاية سعينا أن نصل إلى حياة “عادية”، ومستقر لمشاكلنا التي تحاصرنا وتحاصر أهلنا.. أصبحنا نقاتل كي نصل إلى هدنة معها، نخوض الحرب من أجل هدنة فقط!

 

أما العالم، فكنا ما نزال نأمل له الخير، لكن ليس على يدنا.. استغرقتنا مشكلات الحياة وظلم الأنظمة وضيق البلاد وتصورات النجاة، فلم نعد نسعى للبناء.. وصار غاية السعي أن نصل إلى حياة “عادية”، ومستقر لمشاكلنا التي تحاصرنا وتحاصر أهلنا.. أغلبنا، لم يعد أحمل حُلما، ولا شغفا، سوى الوصول إلى زاوية قرار واضحة لا يحتاج فيها للتفكير في معركة الغد.

 

لكن اليوم، وأمام مشهد غزة الفارق للغاية في تصوراتنا، فلم نعد نحمل للعالم سوى ما كان يحمله الجوكر، كان هذا المجنون حكيما كفاية ليدرك أن هذه مدينة لا أمل في إصلاحها.. غزة التي خسرناها بخذلان العرب وخيانة الرفيق، سيعاد إعمارها بعد عشرين سنة أو أقل، لكن صورتها المهدمة لن تغيب عن أعيننا مرة أخرى.. صورة غزة المهدمة اليوم هي العالم بأسره في خاطرنا الآن، وكل أبراج العالم وشواهده العالية لا نرى فيها سوى ركام أنقاض غزة.. وكل صخب الحفلات حول العالم ليس سوى صوت الزنانة وانفجار الصاروخ في خيام النازحين.

 

هذا عالم لا يستحق منا السعي والنضال، وهذه بشرية لا ترتقي لأحلامنا التي نسجناها يوما في خيام الميدان ونحن نهتف ضد ديكتاتور، ونحن لسنا أنانيون أبدا حين نفكر فقط في إنقاذ أهلنا العالقين في مناطق النزاع وتحت أنقاض الحروب والمجاعات.. نحن لا ندين لهذا العالم بشيء!

   
أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.