تخرج سوريا من إحدى أطول وأعنف الحروب التي عرفها العصر الحديث، حرب شنّها النظام البائد ضد شعب طالب بالحرية والكرامة، خلّفت دماراً هائلاً في البنية التحتية والمؤسسات البالية أصلاً، ومزّقت النسيج الاجتماعي، وخلّفت فراغاً مؤسساتياً وأمنياً عميقاً. وفي خضم جهود إعادة الإعمار، تبرز الحاجة إلى بناء دولة رقمية حديثة، تتطلب ركيزة أساسية لا غنى عنها: الأمن السيبراني.
الأمن السيبراني هو مجموعة من السياسات والتقنيات والإجراءات التي تهدف إلى حماية الأنظمة الرقمية والشبكات والبيانات من الهجمات والاختراقات والتجسس والتخريب، وفي مرحلة ما بعد الحرب، لا يمثل الأمن السيبراني ترفاً تقنياً، بل شرطاً أساسياً لنجاح أي مشروع حكومي أو استثماري أو مجتمعي يعتمد على التكنولوجيا.
ورغم أهمية الأمن السيبراني، تواجه سوريا الجديدة تحديات كثيرة في تحقيقه، أبرزها:
1- ضعف البنية التحتية الرقمية:
أكثر من 70% من البنية التحتية المدنية والتقنية دُمّرت، مما يجعل تأسيس بنية سيبرانية آمنة مهمة شاقة تتطلب استثمارات ضخمة وتخطيطاً دقيقاً وشاملاً.
2- غياب الكفاءات البشرية المؤهلة:
معظم الكفاءات التكنولوجية هاجرت أو تضررت خلال الحرب. تدريب جيل جديد من الخبراء السيبرانيين بات أولوية ملحة.
3- انعدام ثقافة الأمن الرقمي لدى المواطنين والمؤسسات:
لا يمكن حماية الفضاء الرقمي دون وعي شعبي ومؤسساتي بمخاطر الأمن السيبراني. وقد أظهرت تقارير دولية أن الهجمات الإلكترونية تنجح بنسبة 90% بسبب “العنصر البشري” وليس الضعف التقني وحده.
4- الفراغ القانوني والتشريعي:
ما تزال التشريعات السيبرانية في سوريا إما غير موجودة أو قديمة ولا تراعي المعايير الدولية لحقوق المستخدمين والسيادة على البيانات.
رغم التحديات، فإن تأسيس نظام أمن سيبراني وطني في سوريا يمكن أن يحقق فوائد حيوية، منها:
في عالم تزداد فيه الحروب الرقمية، تصبح السيادة على البيانات ضرورة وجودية. لذا يجب أن تضمن سوريا الجديدة استضافة بياناتها محلياً، وتطوير نظم تشغيل وطنية أو مفتوحة المصدر، وعدم الاعتماد الكلي على بنى تحتية تابعة لدول أخرى قد تستخدمها لأغراض سياسية أو استخباراتية.
حيث شددت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في أحد تقاريرها:
“الدول الخارجة من النزاعات يجب أن توازن بين التعاون الدولي في الأمن السيبراني، وحماية استقلالها الرقمي”.
التعاون مع المؤسسات الدولية والجهات المانحة وشركات التكنولوجيا العالمية يمكن أن يكون محفزاً إيجابياً لتطوير القدرات السيبرانية، بشرط أن يُدار بعقد سيادي يضمن التحكم السوري الكامل بالمخرجات. وهنا يمكن الاستفادة من نماذج دول مثل إستونيا التي بنت نظاماً رقمياً شاملاً بعد الاستقلال، أو رواندا التي اعتمدت على شراكات مدروسة مع القطاع الخاص لإنشاء بنية رقمية آمنة بعد الإبادة الجماعية.
إذا كان لدي توصيات في هذا المجال أقدمها لصنّاع القرار في سوريا، فهي:
الأمن السيبراني ليس خياراً تقنياً بل ركيزة من ركائز إعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة تضمن السيادة والكرامة والحرية. إن فشلنا في تحقيق الأمن الرقمي يعني ببساطة إعادة إنتاج الهشاشة، لكن هذه المرة في الفضاء الإلكتروني.