في السنوات الأخيرة، شهدت السياسة الخارجية الإثيوبية تحولاً دراماتيكياً، خصوصاً بعد تولى أبي أحمد رئاسة الوزراء في إثيوبيا في أبريل 2018، خلفاً لهايله مريم ديسالين، في وقت كانت البلاد تشهد توترات سياسية واحتجاجات عنيفة. ينحدر أبي من أصول مختلطة، عرقياً ودينياً، من منطقة أوروميا، وهو ما أكسبه فهماً عميقاً لتعقيدات النسيج الاجتماعي في بلاده. منذ بداية عهده، أطلق سلسلة من الإصلاحات الجريئة التي استهدفت الوحدة الوطنية وتحرير الاقتصاد وتحديث المؤسسات الحكومية.
كانت أبرز بصماته على الصعيد الدولي هي توقيع اتفاق السلام مع إريتريا في يوليو 2018، وهي خطوة أحيت العلاقات الثنائية وأعادت الحركة التجارية والدبلوماسية بين البلدين بعد عقود من العداء. اتفاقية السلام هذه لم تنل إعجاب الداخل، وحلفاء إثيوبيا من الغرب فحسب، بل فتحت أبواباً جديدة لأبي أحمد ليكون نموذجاً لذلك الزعيم الأفريقي الجديد الذي يقود بلاده نحو التحديث والسلام الإقليمي.
وقد احتفى الإعلام الغربي، وعلى نطاق واسع، بأبي أحمد كرمز للتغيير الإيجابي في أفريقيا، وهو ما كان له صدى واسع على الساحة الدولية. جاءت جائزة نوبل للسلام التي منحت له في 11 أكتوبر 2019 كتأكيد على صوابية مساره وكدليل على الاعتراف العالمي بجهوده. لكن، وعلى الرغم من هذا الاحتفاء، ثمة نقد يتساءل عما إذا كانت الجائزة قد منحت قبل أن تتجلى نتائج إصلاحاته بشكل كامل ومستدام.
تحول الغرب من التمجيد إلى النقد
واجه أبي أحمد تحديات كبيرة بعد حصوله على جائزة نوبل، حيث عادت التوترات العرقية والصراعات الداخلية للظهور في إثيوبيا، وخاصة في إقليم تيغراي الذي شهد نزاعًا مسلحًا كبيرًا بدأ في نوفمبر 2020، واتهم النقاد أبي أحمد بإدارة الأزمة بشكل غير فعال وبتكريس مركزية السلطة.
في البداية، حاولت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لعب دور الوسيط والدعوة إلى إنهاء النزاع بطرق سلمية. لكن مع تفاقم الأزمة الإنسانية وظهور تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك القتل الجماعي، الاغتصاب، والتجويع المتعمد كوسيلة للحرب، وكانت التغطيات الإعلامية الغربية للصراع مليئة بالتقارير حول الوضع الإنساني المأساوي في تيغراي، مع وصف ما يحدث على أنه إبادة جماعية محتمَلة، أصبحت حكومة أبي أحمد، التي كانت ممجدة قبل سنوات قليلة فقط كرمز للإصلاح والتقدم، موضوع انتقادات شديدة من جانب الغرب، الذي أصبح ينظر إليه كقائد مستبد يقود بلاده نحو المزيد من الانقسام.وفي موقفٍ أكثر حزمًا، أدرجت الولايات المتحدة بعض الشخصيات السياسية الإثيوبية على قوائم العقوبات، وفرضت قيودًا على بعض برامج المساعدات العسكرية والاقتصادية لإثيوبيا. ورغم أن حكومة أبي أحمد نفت الانتهاكات ودافعت عن موقفها على أساس سيادة الدولة وحقها في محاربة التمرد الداخلي، استمر التوتر بين الجانبين.
تعامل إثيوبيا مع ضغوط الغرب
كان أبي أحمد وحكومته واضحين منذ البداية في موقفهم من الصراع؛ حيث اعتبروا أن ما يحدث في تيغراي هو تمرد داخلي تقوده جبهة تحرير شعب تيغراي التي وصفتها الحكومة بأنها “إرهابية”. بناءً على ذلك، رفضت إثيوبيا بشكل قاطع أي محاولات خارجية للتدخل في شؤونها الداخلية.
وركزت الحكومة الفدرالية على خطاب سيادي قوي، مؤكدة أن الضغوط الدولية على إثيوبيا تشكل تدخلاً في شؤونها الداخلية، وأن المجتمع الدولي يجب أن يحترم سيادة الدولة. هذا الخطاب وجد دعمًا قويًا في الداخل، حيث كان الكثير من الإثيوبيين يشعرون أن الغرب لا يفهم الديناميات المحلية ويرغب في فرض حلول خارجية لا تتناسب مع الواقع الإثيوبي.
وفي خضم هذا الصراع الإعلامي والسياسي مع الغرب، بدأت الحكومة الإثيوبية في دعم حملة نشطة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار “Never Again”، (لن يتكرر ثانيةً” وهي حملة كانت تهدف إلى تسليط الضوء على الماضي الاستعماري لأفريقيا ومقاومة الضغوط الدولية التي تنظر إليها الحكومة الإثيوبية على أنها امتداد لعقلية استعمارية قديمة. وركزت الحملة على الخطاب المناهض للتدخل الخارجي، مجادلة بأن إثيوبيا – بوصفها دولة ذات تاريخ طويل في مقاومة القوى الاستعمارية – لن تسمح للغرب بالتدخل مرة أخرى في شؤونها. استخدمت الحكومة ونشطاؤها شعار “Never Again” لربط الصراع الحالي بتراث إثيوبيا في مقاومة الإمبريالية. شارك العديد من الإثيوبيين هذه الرسالة، على منصات مثل تويتر وفيسبوك، مؤكدين على حق إثيوبيا في اتخاذ قراراتها السيادية. وجزء كبير من هذه الحملة كان مدعومًا من الجاليات الإثيوبية في الخارج، الذين نظموا مظاهرات في عواصم أوروبية وأمريكية، معربين عن رفضهم للتدخلات الخارجية ودعمهم لحكومة أبي أحمد. استغلت الحكومة هذه الجهود لتقوية رسالتها السياسية على الساحة الدولية.
وعلى الصعيد الآخر، ورغم أن الحملة نجحت إلى حد كبير في تحفيز الروح الوطنية داخل إثيوبيا وجمع الدعم الشعبي للحكومة، إلا أن تأثيرها على العلاقات مع الغرب كان سلبيًا. حيث رأى الغرب في هذه الحملة تصعيدًا في الصراع الإعلامي والسياسي، واعتبرها محاولة لتوجيه الرأي العام ضد الغرب وتشويه صورته. فتدهورت العلاقات مع الولايات المتحدة، وعلى الصعيد الأوروبي، كانت الردود مشابهة، حيث استمرت دول الاتحاد الأوروبي في انتقاد تعامل الحكومة الإثيوبية مع الأزمة الإنسانية في تيغراي، واعتبرتْ حملات مثل “Never Again” تمثيلاً لخطاب قومي يعزز القطيعة مع الغرب.
فرصة الصين السانحة
على الرغم أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على مسؤولين إثيوبيين وفرضت قيودًا على المساعدات العسكرية لأديس أبابا، وحتى مع ازدياد الانتقادات الغربية، لم تظهر الحكومة الإثيوبية علامات على التراجع أو الرضوخ. بدلاً من ذلك، حاولت إثيوبيا تنويع شراكاتها الخارجية، هنا جاء دور كل من روسيا والصين، اللتين استغلتا الفراغ الدبلوماسي الذي تركه الغرب لزيادة نفوذهما في إثيوبيا والمنطقة بشكل عام.
دعمت روسيا مواقف إثيوبيا في مجلس الأمن الدولي، حيث رفضت المقترحات الغربية التي تدعو إلى التدخل في الصراع وفرض المزيد من العقوبات. أما الصين من ناحيتها، واصلت توسيع استثماراتها الاقتصادية في إثيوبيا كجزء من مبادرة “الحزام والطريق”، باعتبار إثيوبيا بوابة اقتصادية مهمة لأفريقيا، فاختارت دعم حكومة أبي أحمد دون انتقاد علني للسياسات التي اتبعتها في تيغراي. كما حافظت الصين على علاقات اقتصادية قوية، واستمرت في تمويل مشاريع البنية التحتية وتقديم قروض ميسرة، ما وفر لإثيوبيا شريان حياة اقتصادي في وقت حرج.
هذه التحولات ساهمت بشكل مباشر في تعزيز التقارب مع الصين، وأدت في النهاية إلى قبول إثيوبيا كعضو في مجموعة بريكس (BRICS)، وهي المجموعة التي تضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا، وتعمل على تعزيز التعاون بين الاقتصادات الناشئة وتحدي الهيمنة الاقتصادية الغربية.
وفي تطورٍ استراتيجي آخر، أعلنت إثيوبيا عن إنجاز اتفاق أولي مع الصين يُمكّن من إجراء التبادلات التجارية بين البلدين مستخدمين عملتيهما الوطنيتين، البر الإثيوبي واليوان الصيني. جاء الإعلان على لسان وزير المالية الإثيوبي، أحمد شيدي، الذي صرح بأن هذا الاتفاق، الذي ما زال ينتظر التصديق الرسمي، يعد بأن يخفف بشكل كبير من الضغوط المتعلقة بنقص العملة الأجنبية التي تواجهها بلاده. مع التوضيح أن هذه الخطوة ليست معزولة، فقد سبقتها صفقة مماثلة في يوليو من العام نفسه مع الإمارات العربية المتحدة بقيمة 46 مليار بر إثيوبي، ما يعكس استراتيجية إثيوبيا الجديدة للحد من اعتمادها على الدولار الأمريكي في التعاملات الدولية.
وعن التعاون العسكري، نجحت إثيوبيا والصين في تعزيز علاقتهما الدفاعية، في خطوة أعادت تشكيل التوازنات الأمنية في منطقة القرن الأفريقي، المعروفة بتقلباتها السياسية. فخلال منتدى بكين شيانغشان الحادي عشر لعام 2024، أكد المشير بيرهانو جولا، رئيس الأركان العامة الإثيوبي، والجنرال ليو تشنلي، من اللجنة العسكرية المركزية الصينية، على تعميق التعاون الدفاعي بين البلدين. هذه الخطوة، التي تهدف بشكل أساسي إلى تحديث الجيش الإثيوبي، تعكس رغبة أديس أبابا في الاعتماد على الابتكارات التكنولوجية مثل شبكات الهاتف المحمول من الجيل الخامس، الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الحرب السيبرانية.
ليس هذا فقط، الاتفاق الذي جرى توقيعه يشمل مذكرة تفاهم تغطي نقل التكنولوجيا وتطوير المعدات العسكرية. ولاحقًا، أبرزت تقارير إعلامية حصول إثيوبيا على شحنة أسلحة ضخمة من الصين، تضمنت مزيجًا متنوعًا من المعدات العسكرية، بما في ذلك بنادق هجومية من نوع AF56 مزودة بذخائرها، إلى جانب طائرتين بدون طيار من طراز Wing Loong JG1 الصينية المتطورة. هذه الخطوة أثارت الكثير من التساؤلات حول تبديل إثيوبيا استراتيجيتها العسكرية من الترسانات الغربية إلى الصينية في فترة تشهد فيها القرن الأفريقي توترات متزايدة. مما يظهر التزام إثيوبيا بتعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة، خاصة تلك المتعلقة بالتوترات مع الصومال، وسد النهضة، الذي يعد مشروعًا طموحًا لتوليد الطاقة الكهرومائية وتحفيز التنمية الاقتصادية، يواجه معارضة شديدة من دول المصب مثل مصر، التي تعتبره تهديدًا لحصتها التقليدية من مياه النيل.
الصين حليفًا أساسيًا لإثيوبيا في عهد أبي أحمد
بحلول أكتوبر 2023، تطور التعاون بين إثيوبيا والصين من شراكة استراتيجية إلى تعاون تنموي شامل، وهو مستوى من التعاون لا تمنحه الصين إلا لعدد محدود من الدول. ورغم أن العلاقات بين البلدين بدأت تتبلور منذ عام 2006، حيث نفذت إثيوبيا أكثر من 70 مشروعًا ضخمًا ضمن هذه المبادرات الصينية حتى اليوم. ولتنفيذ هذه المشاريع، ضخت الحكومة الصينية والمؤسسات المالية ما يقارب 14.83 مليار دولار من القروض في الفترة بين 2006 و2018.
في الوقت الراهن، الصين، بدهائها المعتاد، تواصل رسم معالم نفوذها في القارة الأفريقية، مستغلة الفرص السياسية والاقتصادية لتعزيز موقعها كشريك استراتيجي رئيس لإثيوبيا. وهكذا يتضح لنا أن إثيوبيا، التي كانت يومًا ما الحليف المدلل للغرب، قد وجدت نفسها اليوم تدور بالكامل في فلك الصين، حتى أن ترسانتها العسكرية أصبحت تعتمد بشكل كبير على الأسلحة المنتجة في الصين. اليوم، يتعمق هذا التعاون أكثر فأكثر، مما يوضح بجلاء كيف أن الصين وروسيا تسحبان الحلفاء الأفارقة من الغرب بذكاء واستراتيجية طويلة الأمد.