للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي
تُثير تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب بشأن الصراع في غزة جدلًا واسعًا، ليس فقط لما تحمله من نبرة حادة وتهديدات صريحة، ولكن أيضًا لما تعكسه من مقاربة سياسية تقوم على القوة والهيمنة في منطقة تعج بالتعقيدات والصراعات التاريخية. إذ صرح ترمب مؤخرًا بأنه إذا لم يتم الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين بحلول ظهر يوم السبت، فإنه سيطالب بإنهاء وقف إطلاق النار وجعل غزة “جحيمًا”. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا: هل يستطيع ترمب فعلًا فرض شروطه على المقاومة في غزة؟
للوهلة الأولى، تبدو تصريحات ترمب وكأنها صادرة عن قائد يستطيع التحكم بمصائر الدول والشعوب، وهو ما يُبرز النهج التقليدي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. إلا أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد جهة تخضع للضغوط الخارجية، بل هي جزء من صراع طويل الأمد، تشكلت ملامحه على مدار عقود من الاحتلال والحروب والانتفاضات. فالمقاومة في غزة، وعلى رأسها حركة حماس، ليست كيانًا دوليًا يمكن إجباره على الامتثال لشروط خارجية بسهولة، فهي تعتمد على شبكة معقدة من الدعم الشعبي والإقليمي والدولي، وتستند إلى أيديولوجية صلبة تتحدى الضغوط والتهديدات. ولعل تجارب الحروب السابقة تُظهر أن المقاومة الفلسطينية قادرة على الصمود أمام أشد الحملات العسكرية والسياسية، وبالتالي فإن فرض شروط من الخارج يبدو مهمة شبه مستحيلة، خاصة إذا كانت تتعارض مع مصالح المقاومة ومبادئها الأساسية.
تصريحات ترمب تُظهر تجاهلًا واضحًا للواقع الإقليمي وتعقيداته، فالدول العربية المحيطة بغزة، مثل مصر والأردن، ترفض بشكل قاطع أي حلول تتضمن تهجير الفلسطينيين أو توطينهم خارج وطنهم. فمصر، التي تلعب دور الوسيط الرئيسي في المفاوضات، أعلنت بوضوح أنها لن تقبل بأي مخططات تمس حقوق الفلسطينيين أو تغير التوازن الديموغرافي في المنطقة. أما قطر، التي تلعب دورًا حيويًا كوسيط وممول في القضية الفلسطينية، فقد أبدت غضبها من التصعيد الإسرائيلي ومن تصريحات ترمب، حيث إن هذا الدعم القطري للمقاومة يجعل من الصعب على الولايات المتحدة فرض أجندتها دون مواجهة معقدة مع هذه الأطراف.
على الرغم من الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل، إلا أن تل أبيب ليست دائمًا على استعداد للتجاوب مع كل الضغوط الأمريكية، فالقرار بشأن وقف إطلاق النار أو استئناف الحرب يعتمد في المقام الأول على الحسابات الأمنية والسياسية الإسرائيلية. فالشارع الإسرائيلي يعيش حالة من الغليان، حيث تتزايد الضغوط على الحكومة لإعادة الرهائن بأي ثمن. ومع ذلك، فإن استمرار التصعيد العسكري قد يعرض الحكومة الإسرائيلية لمزيد من الانتقادات، خاصة إذا نتج عنه سقوط أعداد كبيرة من القتلى الإسرائيليين، أو تصاعد المقاومة في الضفة الغربية وأراضي 48.
منذ سنوات طويلة، بنت المقاومة الفلسطينية استراتيجيتها على التحدي والصمود أمام أعتى القوى العسكرية والسياسية في العالم. هذه الاستراتيجية لا تعتمد فقط على القوة العسكرية، بل على الدعم الشعبي المحلي والدولي الكبير الذي يمنح المقاومة شرعية وجودها واستمرارها. لأن تصريحات ترمب التي وصفت حماس بـ”المرضى” تعكس عجزًا عن فهم الديناميكيات الحقيقية للصراع في غزة، فالمقاومة ليست مجرد مجموعة مسلحة، بل هي تعبير عن حالة شعبية تتحدى الاحتلال وترفض التنازل عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
أحد أبرز النقاط التي أثارت غضبًا واسعًا في تصريحات ترمب هو اقتراحه بإعادة توطين الفلسطينيين خارج غزة، واصفًا ذلك بأنه “تطوير عقاري للمستقبل”. هذه الخطة، التي وصفها محللون بأنها شكل من أشكال التطهير العرقي، تتجاهل تمامًا الحقوق التاريخية والقانونية للفلسطينيين، كما أنها تنتهك القوانين الدولية التي تجرم التهجير القسري للسكان. ورفض هذه الخطة جاء صريحًا من الدول العربية ومن الأمم المتحدة، حيث اعتُبرت محاولة لتصفية القضية الفلسطينية بدلًا من إيجاد حلول حقيقية للصراع.
التاريخ يُظهر أن المحاولات الأمريكية السابقة لفرض إملاءات على المقاومة الفلسطينية غالبًا ما باءت بالفشل، لأن المقاومة بحكم طبيعتها الأيديولوجية والميدانية لا تستجيب للضغوط التقليدية، بل تعمل وفق رؤية تتحدى هذه الضغوط كجزء من معركتها السياسية والعسكرية. فحتى لو مارست الولايات المتحدة ضغوطًا على الأطراف الداعمة لغزة، مثل قطر أو إيران، فإن المقاومة تعتمد على استراتيجيات متعددة للحفاظ على وجودها واستمرارها.
في الأخير، تصريحات ترمب تعكس نهجًا قائمًا على التهديدات والرؤية الأحادية للصراع، لكنها تفتقر إلى الواقعية والتفهم لتعقيدات المشهد الفلسطيني. فالمقاومة في غزة أثبتت أنها قادرة على مواجهة التحديات والصمود أمام الضغوط، سواء جاءت من إسرائيل أو الولايات المتحدة. ويبدو أن محاولة ترمب لفرض شروطه على المقاومة ليست أكثر من استعراض سياسي يهدف إلى تحقيق مكاسب داخلية، لكنها تظل بعيدة عن التأثير الحقيقي على الأرض، لأن الصراع في غزة أكبر من أي زعيم أو دولة، وهو صراع يرتبط بجذور تاريخية وشعب يرفض التخلي عن حقوقه مهما كانت التضحيات.