ما زالت التقارير الإعلامية تتوالى هنا وهناك، عن قرب عقد معاهدة سلام بين سوريا وإسرائيل وتطبيع العلاقات بينهما، وكان لافتاً خلال الأيام المنصرمة تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الذي أعرب فيه عن أن اتفاق سلام مع سوريا يبقي الجولان في قبضة إسرائيل هو أمر إيجابي لها ولمستقبلها، بما يناقض اللهجة الكلامية الحادة التي اتخذتها إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد في أواخر العام المنصرم، والتي قادها بشكل رئيسي وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الذي هدد الرئيس السوري أحمد الشرع أكثر من مرة، فيما بدا أنه تعبير عن عنجهية إسرائيلية لا تميز بين دول جوارها، وتكاد تضع الجميع في خانة -العدو- بما فيها أبرز الدول العربية المطبعة كالأردن ومصر.

 


التهديد الإسرائيلي تطبيع أم تسعير للمواجهة 

 

 على الجانب السوري لا يبدو أن لدى السوريين رغبة حقيقية حكومة وشعباً لتداول موضوع السلام مع إسرائيل أو الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام التطبيعية معها والتي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا الموضوع حساس ويكاد يدخل في سلة التابوهات المحرمة على التداول من جهة، فيما تفرض معادلات ومتطلبات مرحلة ما بعد الثورة السورية نفسها بقوة من جانب آخر، فحتى اللحظة تبدو الإشارات الرسمية من دمشق خافتة بخصوص التطبيع مع إسرائيل، واقتصرت على الإشارة إلى عدم رغبة سوريا في خوض معارك أخرى بعد سنوات طويلة من الثورة والاحتراب الداخلي، وبناء علاقات طيبة وودية مع كل “دول الجوار” بما يعني أن ذلك يشمل ضمنياً إسرائيل.

 

وفيما بدا أن السوريين أنفسهم يجدون صعوبة في الذهاب إلى تطبيع غير واضح المعالم وما يترتب عليه من سلام غير متوازن، وإذا كانت الموافقة الشعبية الضمنية التي تحظى بها الحكومة السورية الحالية للتصرف بخصوص هذا الملف تنطلق من فكرة أن الحاجة تبرر أحياناً اتفاقيات سلام مع إسرائيل وهو شر لا بد منه، خصوصاً مع حقيقة الواقع السوري المحطم والذي يحتاج الشعب السوري معه لتوجيه كل طاقاته وتصفير كل مشاكله الخارجية لكي تنمو فرصة الانطلاق نحو المستقبل، بل يبدو أن السوريين يعيشون في أكثر مرحلة يشعرون فيها بالتقبل لفكرة السلام مع إسرائيل، خصوصاً مع إرث طويل بالمواجهة مع إسرائيل، وانعدام أي أمل بالقدرة على المواجهة مع ضعف الهوة الواضحة بين قدارت الطرفين العسكرية لصالح إسرائيل طبعاً. 

 

 

 نظر السوريون إلى إسرائيل منذ تأسيسها على أنها كيان مغتصب واقتصرت الاتفاقات ما بين الطرفين منذ العام 1948 على اتفاقات هدنة طويلة نسبياً، ففلسطين كانت جزءاً من سوريا الطبيعية، والسوريون ينظرون إليها كسوريا الجنوبية، ولا مراء أن وجود دولة استيطانية ذات قدرات عسكرية وتكنولوجية هائلة مع قدرات نووية باعث على القلق والتوتر والشعور بالتهديد لدى السوريين، بل إن بتر هذا الجزء من سوريا الطبيعية وحشر كيان غريب فيها بقرار ودعم غربي لا بد أنه أعاق أي محاولة تنموية حقيقية في سوريا بعد الاستقلال السوري عن فرنسا.

 

 

وزادت نكسة 1967 من عمق الجرح السوري ليكون التهديد ضمن حدود الدولة السورية نفسها بما يمس سيادتها واستقلالها وما ترتب عليها من احتلال هضبة الجولان السورية من قبل إسرائيل، ولولا  التهديد الإسرائيلي المتنامي على الحدود الجنوبية لربما كان سياق تاريخ سوريا مختلفاً جداً، وربما مرت 75 عاماً في سوريا بدون انقلابات عسكرية ودون دور كبير للقومية العربية ودون إنفاق عسكري ضخم ودون دور سوفييتي هائل، ودون نظامي الأسد بنسختيه في عهد الديكتاتوريين الأب والابن، وربما افترضنا كذلك أن داعش لم تكن لتوجد ولم تكن مبرراتها لتلقى أذناً صاغية، فهي تبدو أكثر وارث  للقومية العربية من التيارات الإسلامية، وإن كانت هذه القضية ثانوية لها في قتالها لأعداء آخرين إلا أنها بالتأكيد كانت في ذهن قادتها العميق.

 

 

الحديقة اللبنانية وسوريا الإقليمية

 

الحقيقة أن حرب تشرين 1973 لم تعطِ نظام حافظ الأسد الشيء الكثير ما عدا استعادة القنيطرة، وبدا النظام معزولاً بين العراق ومصر إلى أن وجد حافظ الأسد بانهيار دولة لبنان عام 1975 وسقوطه في أتون حرب طائفية استمرت لعقود فرصة ذهبية للاستمرار والتألق إقليمياً وتحقيق توازن مع إسرائيل عن طريق اقتسام النفوذ في لبنان بين الطرفين. 

 

 

بعد حرب 1973 التي خرجت منها سوريا غير خاسرة وغير رابحة محتفظة بماء الوجه، وحيدة بدون الحليف المصري الذي دخل في مفاوضات انتهت بمعاهدة كامب ديفيد، أنقذ الملف اللبناني حافظ الأسد من ضغوط داخلية سورية للمواجهة مع إسرائيل، صنعها السياق الصعب للعلاقة مع الجار المغتصب الطارئ، وبين ضغوط خارجية للذهاب في سلام شبيه بالسلام المصري والأردني.

 

 

اتفاق تطبيع متأخر؟

 

بدأ لبنان يعطي مساحة لسوريا في الظهور كدولة مهمة في الشرق الأوسط باقتسام مناطق النفوذ فيه مع إسرائيل، واللعب فيه وتفريغ شحنات العداء، ولولا ذلك لربما كانت سوريا إلى جانب مصر والأردن في اتفاقيات التطبيع، فاللعب في لبنان وعلى أوتار توازناته وطوائفه أعطى وقتاً إضافياً لنظام الأسد كي يعيش لعقود مديدة أخرى رغم التهديد الإسرائيلي المستمر، فيما بدا أنه اتفاق دولي على تعويض النظام السوري عن الجولان بإطلاق يده في لبنان وممارسة الهيمنة السورية التي سوف تقطف إسرائيل عبر التحكم بكل خيوط اللعبة التي من الممكن أن تؤذي الإسرائيليين.

 

 

من لبنان تعلم نظام الأسد اللعب بالتوازنات مع إسرائيل، فيما فشل في اختبار الحرب والنار على حدود الجولان، ومن لبنان وعبره استطاع الاستمرار في التمسك بشعارات المقاومة والتصدي في وقت لم يعد يسمع فيه صوت رصاصة على الجبهة لعقود متوالية، مكتفياً بدور الداعم للمقاومة وليس طرفاً أصيلاً في المشكلة، وهو ما خلق شعوراً لدى معارضيه بأنه أي نظام الأسد أصبح الطفل المدلل غربياً نتيجة هذه اللعبة، وأصبح المغلوب على حدوده غالباً ومخادغاً في لبنان.

 

 

التوازن المفقود والميراث الإقليمي

 

لبنان الذي كان دوره محورياً في علاقة سوريا في عهد الأسد وابنه بإسرائيل، لا يبدو بعيداً عن هذا الدور حالياً ورغم الضبابية التي تحوم حول المخططات الإسرائيلية في المنطقة والتي نعرف منها ما قاله نتنياهو عن إمكانية تغيير الشرق الأوسط بما يناسب الزمن الإسرائيلي، يبدو أن لبنان الحالي لا يبتعد عن دوره السابق في العلاقة ما بين الدولتين، فما زالت أنظار المجتمع الدولي مشدودة إلى سلاح حزب الله اللبناني، الذي ما زال يماطل في تسليم سلاحه للدولة اللبنانية في ظل إصرار إسرائيلي أمريكي على تفكيك الحزب عسكرياً بشكل يتناسب مع الرؤية الإسرائيلية للشرق الأوسط.

 

 

وتبدو سوريا من جديد شديدة الأهمية غربياً لتحقيق أمن إسرائيل، مما يعطي الحكومة السورية الجديدة أوراقاً لإزعاج إسرائيل وإثارة قلق تل أبيب عن طريق تخريب الترتيب الجديد في لبنان وربما المنطقة، تحتاج سوريا لسلام مع إسرائيل لأنها أصبحت بأمس الحاجة لتجنب مواجهة هي غير قادرة عليها أساساً، فيما لا نعرف تماماً حاجة إسرائيل للسلام عدا عن الاحتفاظ بالجولان إلى الأبد ومقارعة الدور الإيراني الذي تضاءل لدرجة كبيرة جداً، سوريا منزوعة القوة حالياً ولكنها تبقى رغم ذلك لاعباً في المنطقة، وربما تكلفة الفوضى فيها إسرائيلياً ستكون أكثر بكثير من كلفة سوريا مستقرة، وربما حتى في ظل عنجهية إسرائيلية وأمريكية يجد أصحابها أنفسهم مجبورين هم قبل غيرهم على التفاهم واحترام حدود معينة  للضغط، جبرية ربما تُسير الطرف المقابل.

أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.