“أنا حي الآن، لكن لا أعرف حتى متى”، بهذه الكلمات يصف أحمد مأساته التي يشعر أنها خالدة ولن تنتهي. يستطرد أحمد مضيفًا أنه يشارك هذه المأساة مع مليوني إنسان “إلا 50 ألفًا”، فهم قد استُشهدوا وارتاحوا من العناء الطويل. أحمد يواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، لكنه لا يواجهها وحدها. يقول إن هناك سلاحًا إسرائيليًا آخر يقتل بصمت، وهو أشد فتكًا من الرصاص في حصد الأرواح، لأنه لا يترك مساحة للضحية للصراخ، ولا آثار دماء على الجثث لإثبات مسؤوليته عن القتل.

 

أحمد مواطن غزّي يسكن في مخيم جباليا. لم تتمكن الدبابات والحصار الجائر والمسيرات وقصف المدفعية العشوائي وألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي من إقناعه بترك منزله في المخيم. لكن سلاحهم الأخير نجح في ذلك. يقول أحمد إنه كان يسير لأكثر من ساعتين في المخيم بحثًا عن بعض الماء، وعندما يجده يعود سريعًا إلى أهله فرحًا محملًا بجالون من الماء، لكنه حزين في الوقت ذاته لأنها لا تكفي لجميع أفراد أسرته. الماء ليس كالطعام، فبالطعام يمكنه التغلب على الجوع بأي شيء متوفر، لكن الماء لا غنى عنه، إنه كالأكسجين. وإسرائيل تُبيدنا من خلاله.


حرب الماء 


قطع الماء لا يعني فقط ندرته أو عدم العثور على ما يكفي للشرب، لكنه يعني أيضًا اللجوء إلى مياه غير صالحة للاستخدام الآدمي للاستحمام أو حتى للشرب. يؤدي ذلك إلى انتشار التهابات معوية وأمراض مثل التهاب الكبد. قبل الحرب، كان عدد المصابين بالتهاب الكبد الوبائي في غزة 85 حالة فقط، أما اليوم فقد بلغ عدد المصابين به قرابة 40 ألف حالة، مع تسجيل 800 إلى 1000 إصابة أسبوعيًا، وفقًا للأونروا، مما يمثل رقمًا كارثيًا لا مثيل له في أي مكان بالعالم. كل هذا نتيجة استخدام إسرائيل لسلاح “قطع الماء وتدمير محطات الصرف الصحي”.


ذكرت “هيومن رايتس ووتش” أن الجيش الإسرائيلي قتل آلاف الفلسطينيين بحرمانهم المتعمد من الماء النظيف، مشيرة إلى أن الرقم المبدئي لشهداء الحرب بلغ 45 ألفًا، دون احتساب الآلاف الذين قتلوا نتيجة غياب الماء، بالإضافة إلى أولئك العالقين تحت الأنقاض أو الذين يعانون من أمراض ستؤدي إلى وفاتهم لاحقًا. ولكن بند الماء هي معركة سرية تخوضها إسرائيل بشكل متعمد بهدف الإبادة الجماعية للغزيين، وهو ليس سرًا خالصًا كي تخبئه إسرائيل فقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق “يوآف غالانت” بعد يومين من بداية الحرب أن الجيش سيفرض حصارًا كاملًا على قطاع غزة، مؤكدًا “لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، وكل شيء سيكون مغلقًا، نحن نحارب حيوانات بشرية”.


كما وثقت هيومن ريتس ووتش تدميرًا إسرائيليًا متعمدًا لمحطات تحلية الماء ومحطات الصرف الصحي في غزة، وكان من بين الأدلة التي استندت إليها المؤسسة، مقطع فيديو نشره أحد الجنود الإسرائيليين مفتخرًا بنفسه وهو يضغط زر قنابل التي ان تي والسي فور شديدة الانفجار ليحيل البناية إلى ركام في لحظة واحدة. 


إسرائيل لم تبدأ استخدام سلاح الماء ضد الغزيين مؤخرًا أو بعد ٧ أكتوبر، الحكومة الإسرائيلية بدأت منذ سنوات طويلة في السماح بتسرب ماء البحر إلى الخزان الجوفي في قطاع غزة، بالإضافة لرفضها الطلبات المتكررة بتنفيذ مشاريع هندسية لتثبيت منسوب المياه الجوفية، كما أنها خفضت تدفقات المياه العذبة من الخارج، ما يزيد من اعتماد الغزيين على الخزان الجوفي، ما يفاقم مشكلات التملح، ما ينتج عنه دمار الأراضي الزراعية، وأمراض لا تُحصى.


سرقة من ٣ دول عربية


وبأسلوب حيواني متكرر، تسرق إسرائيل المياه بشكل منتظم من مصادر مختلفة:


  • الضفة الغربية: تستولي على 80% من المياه وتسمح للفلسطينيين باستخدام 20% فقط.
  • الأردن: تستحوذ على معظم مياه نهر الأردن عبر مشاريع مثل “الناقل القطري”، إضافة إلى سحب كميات كبيرة من مياه بحيرة طبريا.
  • الجولان السوري المحتل: بعد احتلالها للجولان عام 1967، سيطرت إسرائيل على مصادر المياه هناك، بما في ذلك روافد نهر الأردن والينابيع.
  • لبنان: تسرق مياه نهر الوزاني بشكل منتظم، متذرعة بحجج “الأمن المائي”.

في النهاية يجلس الإسرائيلي منتشيًا بالسرقات، يعد أسلحته المتنوعة، ويختار بينها، أن يطلق رصاصة فتقتل وتترك أثرًا، أو أن يقطع الماء فيقتل دون أثر وبلا رقيب. وفي ذات الوقت، يستمر في سرقاته، وفي تفاخره العلني بها. وفي سياق تناقضاته يقول تارة:


نحن الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، وتارة أخرى يشعر بالملل أو الخوف ربما ويود الرقص على الأشلاء، فيخلع قناعه، ويلتقط مقطع فيديو مفجرًا بناية، أومطلقًا النار للتسلية على بشر عابرين.



أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.