سوريا بعد السقوط الرقمي.. عندما تتحول الحرية إلى فوضى
أبريل 28, 2025
147
سوريا بعد السقوط الرقمي.. عندما تتحول الحرية إلى فوضى
-محمد قدور
منذ اللحظة التي بدأ فيها النظام السوري يفقد قبضته على الأرض، بدأ السوريون يعيشون نوعاً آخر من الفوضى، فوضى من نوع جديد، لم تكن مدفوعة بالبراميل أو الطائرات، بل بالكلمات. ومن بين أعمدة هذه الفوضى، كان الفضاء الرقمي – وتحديداً منصات التواصل الاجتماعي – أحد أكثر الساحات ضجيجاً واضطراباً. في البداية، كانت مواقع مثل فيسبوك وتويتر نافذة حقيقية للسوريين كي يكسروا حاجز الخوف ويتحدثوا بحرية للمرة الأولى. أصبح كل حساب شخصي منبراً، وكل منشور موقفاً سياسياً، وكل تعليق بطاقة انتماء. لكن سرعان ما تحولت هذه المساحة من أداة للتحرر إلى حلبة صراع مفتوحة، مليئة بالتخوين، والسخرية، وانعدام الاحترام، والانقسامات.
لم يكن نظام الأسد يمثل دولة بمفهومها الحقيقي، بل كان سلطة استبدادية تُحكم بالقبضة الأمنية وتُدار بالعنف والقمع. ومع تراجع هذه السلطة، لم يأتِ البديل المنتظر الذي ينظم العلاقات ويؤسس لقيم جديدة، بل تفككت ما تبقى من المرجعيات التي كان الناس، حتى وإن كانوا مكرهين، يحتكمون إليها. في الفراغ الناتج عن هذا السقوط، دخل السوريون فضاءً عاماً بلا ضوابط، بلا محاسبة، وبلا أدنى اتفاق على المعايير الأخلاقية التي تنظم الحوار أو تحكم العلاقات الاجتماعية، سواء على الأرض أو في العالم الرقمي.
واحدة من أكثر السمات المقلقة في الفضاء السوري الرقمي اليوم هي سهولة توجيه تهمة “الخيانة”. لم تعد تهمة الخيانة مرتبطة بفعل قانوني محدد أو بتعاون مع العدو، بل أصبحت أداة يُسكت بها كل مخالف في الرأي، وأحياناً لأسباب شخصية بحتة. المعارض يخوّن المعارض، والمستقل يخوّن الجميع، وكل طرف لديه تعريفه الخاص للوطنية. والنتيجة؟ بيئة مشحونة، تعزز الخوف من الكلام، وتعيد إنتاج الاستبداد لكن هذه المرة باسم “الثورة” أو “الحرية”.
غاب الاحترام في النقاشات العامة، فلم يعد مجرد حالة فردية، بل أصبح نمطاً سائداً. الهجوم الشخصي، التهكم، الشتم، والتقليل من الآخرين أصبحوا أدوات للتعبير، وكأننا نعيش حالة “تحرر لغوي” مشوهة، تُستخدم فيها الحرية كغطاء للتنمر. هذا المناخ لا يقتل فقط النقاش الجاد، بل يُسهم في تحطيم صورة الآخر المختلف وتحويله إلى عدو محتمل.
في النهاية، المجتمع هو المتضرر الأكبر من هذه الفوضى. فالشعب الذي خرج يطالب بالحرية والكرامة، بات أسير خطاب يفتقد لأبسط القيم التي طالب بها. آلاف السوريين باتوا ينسحبون من النقاش العام، يختارون الصمت كملاذ، أو يعزلون أنفسهم تماماً عن منصات التواصل. أما الجيل الجديد من السوريين، فتتشكل هويته وسط هذا الركام اللغوي والنفسي، في ظل غياب نماذج حقيقية يمكن الاقتداء بها.
ربما لا نملك جميع الإجابات، ولكن ما نملكه هو خيار: أن نكون جزءاً من هذه الفوضى، أو نحاول أن نخلق نمطاً مختلفاً من النقاش والاحترام. علينا أن نعيد بناء المفاهيم التي فقدناها في طريقنا نحو التحرر: الحوار، تقبل الآخر، النقد دون تجريح، وحق الاختلاف دون تخوين. ربما لن تنتهي هذه الفوضى قريباً، ولكن بداية التغيير تبدأ من فرد واحد يقرر أن يكون مختلفاً في طريقة كلامه، احترامه، وسلوكه.. حتى في عالم افتراضي.