Blog
في قرار مفصلي في مسار الدولة، أعلنَت السلطات الانتقالية في مالي رسميًا في يناير 2024، إسدال الستار على اتفاق السلام والمصالحة الموقّع عام 2015 في الجزائر. قرارٌ وُصف بالخطر من قِبل بعض الفاعلين الدوليين، لكنه، في نظر القيادة المالية، يمثل لحظة وضوح سياسي أملته الحقائق الأمنية على الأرض، وتُرجم بإرادة صلبة لاستعادة زمام المصير الوطني. لا من أجل إشعال حرب، بل لتنقية مسار السلام من شوائبه. وعلى عكس الرواية الدولية التي دأبت على تصوير باماكو كجهة معطلة للسلام، تؤكد السلطات المالية أنها لا ترفض الحوار، بل تعيد تحديد معاييره، واختيار من يستحق الجلوس إلى طاولته.
هجوم قارب تمبكتو: نقطة التحوّل والسبب المباشر للانسحاب من الاتفاقية
في 7 سبتمبر 2023، استهدف هجوم دموي قاربًا مدنيًا في نهر النيجر بين غاو وتمبكتو، شمالي البلاد، مخلّفًا عشرات القتلى، ومحدثًا صدمة لدى الرأي العام والسلطات على حد سواء. حيث أطلق مسلحون متطرفون قذائف صاروخية على القارب المكتظ بالمئات من الركاب، ما أدى إلى انفجار المحركات واشتعال النيران فيه بينما كان يشق طريقه في النهر. أسفر الاعتداء عن مجزرة مروعة طالت الأبرياء؛ إذ قُتل ما لا يقل عن 49 مدنيًا في الحادث وفق الحصيلة الرسمية الأولية، بينهم عائلات بأكملها من نساء وأطفال قضوا حرقًا أو غرقًا أثناء محاولتهم الفرار من القارب المحترق.
وضحّت هذه العملية الإرهابية هشاشة الوضع الأمني في الشمال، ووضعت شمال مالي في حالة طوارئ، حتى وصفتْ مصادر رسمية الهجوم على القارب بأنه من أفظع العمليات الإرهابية في تاريخ مالي الحديث. وقد أُعلنت إثر ذلك فترة حداد وطني، فيما شرعت السلطات بتحقيقات للكشف عن الجناة وسط أجواء من الغضب والحزن العام.
ولاحقًا حين تبنّى العملية فصيل مرتبط بـ”تنسيقية حركات أزواد” -سيما- (CMA)، وهي جهة موقعة على اتفاق الجزائر، مؤكدةً مسؤوليتها عن استهداف القارب، كما إلى جانب كارثة القارب، تعرضت ثكنات للجيش لهجمات دامية شنتها نفس الجماعة في الأيام والأسابيع المحيطة بالحادث، بما في ذلك الهجوم على معسكر بلدة بمبا الذي أدى إلى مقتل 15 جنديًا ماليًا. هذا التبني كان، في نظر باماكو، إيذانًا بنهاية الغموض: فلم تعد هذه الجماعات شركاء في السلام، بل أطرافًا في معادلة الإرهاب، وقد قطعت صلتها بالكامل بروح المصالحة. وغنّي هنا عن البيان، أنّ الهجوم جاء في لحظة كانت فيها القوات المسلحة المالية (FAMa) تستعيد تدريجيًا السيطرة على مناطق سبق أن انسحبت منها بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، بينما كانت “سيما” تُكثّف من هجماتها، بل وتُتهم من قبل أجهزة الأمن المالية بالتنسيق مرارًا مع جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المُوالي لتنظيم القاعدة، التي يقودها إياد أغ غالي، الرجل نفسه الذي كان من بين القيادات العظمى لحركة تحرير أزواد في السابق، وهنا لم تعد العلاقة المريبة بين الطرفين محل تكهن، بل أصبحت واقعًا ميدانيًا ثابتًا.
هكذا، على الصعيد الإنساني والأخلاقي، ترك هذا الهجوم جرحًا غائرًا في ضمير المجتمع المالي والدولي على حد سواء. مشاهد الجثث المنتشلة من مياه النهر والجنازات الجماعية على ضفافه جسّدت حجم الكارثة الإنسانية – أكثر من مجرد أرقام وإحصاءات – فهناك أسر أُبيدت وأطفال مزقت حياتهم قذائف الإرهاب. وبينما وصفت منظمات حقوقية دولية هذا الهجوم بأنه جريمة حرب تستوجب المساءلة، برز تساؤل أخلاقي ملحّ في منطقة الساحل: كيف يمكن للحكومة الاستمرار في اتفاقية الجزائر أو حوار سلام مع جهات تمارس مثل هذا الإرهاب؟ إنَّ الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع جماعة تستبيح دماء المدنيين بهذا الشكل الفاضح يمثل تناقضًا أخلاقيًا صارخًا ويبعث برسالة خاطئة حول التسامح مع العنف.
مالي: نهاية اتفاقية الجزائر لا تعني نهاية اليد الممدودة
رغم محاولات شيطنة الحكومة المالية، فإنها لم ترفض أبدًا السلام. ما ترفضه باماكو ليس السلام، بل وهم سلامٍ مفروض من الخارج، وتُحرك خيوطه جماعات مسلحة مُسيّسة. والدليل أن الإعلان عن انتهاء العمل باتفاق الجزائر ترافق مع فتح فضاء حوار وطني شامل، عُقد بين الماليين وحدهم، وبلا وساطة أجنبية. وقد بدأت ثماره بالظهور: فقد استجابت عدة حركات موقعة على الاتفاق، معلنة تخلّيها عن نهج الانفصال، وعودتها إلى كنف الدولة. من بينها “جماعة الدفاع الذاتي الطوارق إيمغاد وحلفاؤهم” -غاتيا- (GATIA) بقيادة الحاج أغ غامو، فضلًا عن شخصيات سياسية بارزة كأحمدو أغ بيبي، أحد الأطر السابقين في التنسيقية، والذي بات منخرطًا في مشروع إعادة تأسيس الدولة الوطنية. كما انخرط قادة آخرون من حركات مسلحة سابقة في عضوية الحكومة، أو المجلس الوطني الانتقالي، أو الحوار الإقليمي. وهذه إشارات لا تدع مجالًا للشك: مالي لا تُغلق باب الحوار، بل تُعيد إلى السلام معناه الحقيقي القائم على الوحدة، والسيادة، والمشروعية المؤسساتية، لا على التسويات القسرية مع جماعات السلاح.
مالي في مواجهة الشيطنة: تأكيد استراتيجي للسيادة
الحقيقة التي لا يذكرها خصوم مالي أنه، مرّت سنوات عدة بين الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي، والقرار الرسمي الذي اتخذته سلطات باماكو بالانسحاب من اتفاق الجزائر للسلام الموقّع عام 2015. فقد وقع الانقلاب بقيادة العقيد آسيمي غويتا في أغسطس 2020، بينما لم تُعلن مالي إنهاء التزامها باتفاقية الجزائر، إلا في يناير 2024. وخلال هذه الفترة، بذل الرئيس غويتا جهودًا صادقة لاحترام روح الاتفاق وتفعيل بنوده، مفضّلًا الاستمرارية في مسار السلام بدلاً من القطيعة معه. ورغم التغيير في النظام السياسي، واصلت السلطات المالية الحوار مع الجماعات الموقعة، وسعت بقدر الإمكان إلى تطبيق الآليات المتفق عليها – من تجميع للمقاتلين، وإدماج تدريجي لبعض المتمردين السابقين في الجيش، وغيرها – في إشارة واضحة إلى حسن نيتها في السعي إلى حلّ سلمي.
لكن الخلل الجوهري في اتفاق الجزائر كان يكمن في أن الفوائد المترتبة عليه لم تشمل إلا أقلية ضئيلة من الجماعات المسلحة الأزوادية، وتحديدًا نخبة محدودة من الأزواديين في شمال مالي. وقد أدى هذا التوزيع غير العادل للمكاسب إلى امتناع هذه الجماعات عن نزع السلاح، لأنها – عمليًا – كانت تستفيد من الوضع القائم. لقد احتكرت هذه الأقلية المميّزة النفوذ داخل هياكل تنفيذ الاتفاق، بدءًا من عضوية لجان المتابعة، وصولًا إلى السيطرة على السلطات الإدارية المؤقتة في الأقاليم الشمالية. وهكذا، حظيت هذه الجماعات – الممثلة لمعاناة أهل الشمال– بـ”حصة الأسد” من عملية السلام، على حساب باقي مكوّنات المجتمع. وبما أن وجودها المسلّح كان شرطًا مسبقًا لبقائها في دائرة النفوذ، لم تكن هذه الفئة تملك دافعًا حقيقيًا للتخلّي عن سلاحها، إدراكًا منها أن ذلك يعني التخلي عن الامتيازات السياسية والمادية التي وفّرها الاتفاق.
وفي مواجهة هذا الانسداد، اقترحت الحكومة المالية حوارًا جديدًا وشاملًا، مفتوحًا على جميع المواضيع باستثناء مسألة وحدة الأراضي. أي أن باماكو أعلنت استعدادها لمناقشة كل المطالب – من تنمية الشمال، إلى توسيع اللامركزية، وصولًا إلى إصلاحات مؤسساتية – بشرط ألاّ تُمسّ الوحدة الوطنية أو الحدود الجغرافية للدولة. وقد جاء هذا الانفتاح ضمن مبادرة “الحوار المالي الداخلي” التي أطلقها العقيد غويتا أواخر عام 2023، دون وساطة أجنبية، فاستجابت لها عدة جماعات مسلحة ذات نوايا صادقة. بل إن فصائل كانت بالأمس القريب في حالة عداء مع الدولة، قد ألقت السلاح والتحقت بركب المصالحة، إلى حدّ أن الشمال المالي يُدار اليوم – في جزء منه – بشراكة بين الحكومة المركزية ومقاتلين سابقين اختاروا طريق السلام من الأزواديين ومن قبائل الشمال، وليس من مكونّات الجنوب كما تحاول الدعايات المغرضة ترويجها.
فعلى سبيل المثال، في يناير 2024، أعلن عشرات شيوخ القبائل والوجهاء من مدينة كيدال – المعقل التاريخي للتمرد الأزوادي – انسحابهم من التحالف الانفصالي، وأعربوا عن دعمهم لسلطات المرحلة الانتقالية، وشاركوا في الحوار الوطني الذي دعا إليه آسيمي غويتا. وتحت قيادة شخصيات محلية داعمة للسلام، أصبح هؤلاء الفاعلون – الذين كانوا في السابق متوجّسين – شركاء حقيقيين في إدارة شؤون مناطقهم إلى جانب الدولة، وهو ما يُعدّ مثالًا حيًا على نجاح هذه المقاربة التشاركية.
وفي المقابل، لا تزال قلة من الفصائل المتشددة ترفض كل تسوية، مدفوعة بدعم خارجي يهدف إلى زعزعة استقرار مالي. وقد رفض هؤلاء المتصلّبون عروض الحوار، واستأنفوا الكفاح المسلح تحت غطاء خطاب هويّاتي مضلّل، يدّعون فيه أن الدولة تخوض حربًا ضدّ مجتمعهم. غير أن هذا السرد العرقي المزيّف لا يجد صدىً فعليًا لدى أغلب السكان المحليين في الشمال، الذين لا يشاركون المتمردين رؤيتهم، بل يرفضون العودة إلى التمرد. والحقيقة أن العديد من القبائل الشمالية شاركت بفعالية في جولات الحوار الوطني، ورفضت اللجوء إلى العنف، ودعمت المصالحة – ما يُثبت أن الصراع لا يستهدف مكوّنًا إثنيًا بعينه، بل هو مواجهة مع أقلية من القادة المتمردين الذين يوظفون الانتماء القبلي لأغراض سياسية، ويواصلون قتالًا مسلحًا لا يحظى بأي دعم شعبي حقيقي.
وإن مما يُغفل ذكره عن شمال مالي، أو ما تُصرّ الحركات الانفصالية على تسميته بـ”أزواد”، أن أكبرى الجماعات العرقية هناك لا تؤيد هذا المشروع الانفصالي، بل ترى فيه عبثًا بهوية المنطقة وتاريخها المشترك مع الدولة الأم. وفي مقدمة هذه الجماعات الرافضة تأتي القبائل العربية العريقة، كالبرابيش، والكنتة، وأهل أروان، الذين ظلّوا عبر العقود جزءًا من نسيج الدولة الماليّة لا على هامشها.
بل إنّ المفارقة العجيبة، أنّ الميزانيات المخصصة لتنمية الشمال، والتي أُقرت عقب اتفاقيات الجزائر مع الحركات الأزوادية المسلحة، لم تُسلَّم إلى جهات خارجية أو تُدار من العاصمة، بل كانت بيد شخصيات من أبناء الشمال أنفسهم، ينتمون إلى ذات البنية القبلية والعرقية التي يتذرع بها الانفصاليون. وعليه، فإن كان ثمّة تقصير أو فشل في التنمية أو سوء في الإدارة، فإن أصابع الاتهام لا ينبغي أن تُوجَّه إلى باماكو فقط، بل أولًا إلى من تولّى الأمر من أهل الدار، إن أردنا قول الحقيقة بعيدًا عن ضجيج السلاح وخداع الشعارات.
ختامًا: إذن، إن الهجوم الإعلامي والدبلوماسي الذي تتعرض له مالي من بعض القوى الدولية – واتهامها بالتقلب أو السلطوية – يندرج ضمن استراتيجية “شيطنة” سياسية، تُستخدم عادة لتبرير العقوبات أو العزلة أو حتى التهديد بالتدخل غير المباشر، أو الدعم المُبطّن لحركات انفصالية. غير أن ثمة حقيقة جيوسياسية لا يمكن التغاضي عنها: لا توجد دولة تقبل، طويلًا، بتقسيم أراضيها بين كيانات مسلحة غامضة، على صلة وثيقة بتنظيمات إرهابية. فقرار باماكو بإنهاء الالتزام باتفاق الجزائر لا يعني رفضًا للسلام، بل رفضًا لسلام مفروض، غير عادل، ومنفصل عن ضرورات الأمن الحقيقي. لذا، لا يُعد هذا الانسحاب انسدادًا، بل بوابة لسلام وطني جديد، قائم على المسؤولية، والوحدة.





