مشاركات سوريا

دير الزور، ضفّتان من رماد

أبريل 24, 2025

دير الزور، ضفّتان من رماد

عن الدّير، تمنّيت لو أكتب، مثلما يغرّد حسونٌ من حساسينها.

لم يكن سومر، الصبي الصغير (الذي كان همّه الشاغل أن يحاربَ الرمد الربيعيّ، أو يتخذه صديقًا)، وهو يتحسّس العالم، ويمنحُ الأشياء أسماءها، لم يكن يعلم أن الفرات الذي كان يختنق بمائه ذلك النهار، سيظلّ عالقًا في حلقه، يستحضرُ حلاوته في أسفاره كلها.



في يومٍ صيفي من أواخر تموز، وعلى ضفة الفرات، في ظلال شجر الغرَب الذي يعرفنا ونعرفه. خطر لـ(عمو أبو وسام) حلّ يعفي أهلنا من صداع شجاراتنا وهم يعدّون الكباب للشوي. في ما يسمّيه لعبةً، أمرنا بالنزول إلى الماء اثنين اثنين حتى يغطّي الماء رقابنا. لحسن حظّي -أو لسوئه- لم يخترني في أول اثنين. تقوم اللعبة على مبدأين بسيطين: أولًا، ستنزل تحت الماء وتجلب عشر حصوات. ثانيًا: لن يفلتك أبو وسام من يده ويسمح لك بالخروج من الماء والتنفس حتى يقرر هو، مهما (عافرت).



في سلسلةٍ من عبّ الماء، وشهقات الأنفاس الأولى بعد الخروج، والكلمات المختلطة بالدموع، والحصوات التي لم تصل إلى عشر، في أيدي اللاعبَين الأوّلين، كانت دقات قلبي تسبقني في العدْو أملًا في الهرب. لكن هيهات، على الجميع أن يلعب. جاء دوري. وفي لحظاتٍ قليلة، مرّت مثلَ ومضاتٍ مشاهدُ القفز من الجسور في هذا النهر العنيد الذي تنقلُ الرياح قصص قوّته في الحقول والسّهوب ليلًا نهارًا. كان عمو أبو وسام وقتها قد دفع رأسي إلى أسفل.



من المرة الأولى وبعد ابتلاع ما يكفي لريّ جسدين مثل جسدي بالماء، خرجتُ منتصرًا باثنتي عشرة حصوة. لكن للضرورة أحكام، وللألعاب استثناءات، فلم تشفع لي هذه الجسارة التي حرّكها الرعب من الغرق في نهرٍ شربَ من أبنائه بقدر ما شربوا منه، بالاكتفاء بجولة واحدة. عليك أن تلعب مثلما فعل الجميع، بجولات عديدة.



يومَها، عرفت دير الزور، وتسلّلت مياه فراتها إلى شراييني، وظلّت لعنة حبها تطاردني مذ عرفتُ عذوبة الماء (غصبًا عني).

بذرةٌ ربما لم يكن لها أن تعيش هذه الأعوامَ كلها، لو لم يسقِها أبي -رحمه الله- ويحفّها بعنايته. يجمعنا، يقصّ علينا، ويقول: اكتب عني، عنا، عن الدير. جنّبَ حارتنا آفة النسيان، وأورثني مدينةً مثل لؤلؤة. تتداخل الصور في الذاكرة، وتختلط الكلمات. لكنّ ما احتفظ به قلبي من المشاهد البعيدة للمدينة والقرية، لا يفارق الصفوف الأولى. أفكر بالدير مثل حلمٍ طازج، مثل رائحة الليمون في الصباح، مثل مولية يتردد صدى آخر كلماتها منذ أعوام، مثل خبزة تنّورٍ من يدي حبّابة.. ما تزال طرية.


***

“تعبانين بليّا الدّير،

تهجّرنا وماتت الورود “.

تُردّد الأغنية. وتتردد في رأسي مئات الكلمات التي تتدافع بسخاءٍ من سطرين اثنين. جموعٌ من الكلمات التي لا تسعفها الذاكرة لاستحضار ما يكفي من الصور. عن الورود أريد أن أكتب. أقول في نفسي. عن شبابنا الذين خسرناهم. عن التعب، تقول كلمةٌ أخرى. عن الهجرة، عن البحار البعيدة. عن الموت. لكنني في النهاية أكتب عن الحساسين، عن حناجر الثوار، التي كانت تغني للورود، لاستنقاذها من الذبول.. في مدينةٍ أكلها التعب.



فتح السوريون أعينهم بعد التحرير على مدينة يغطّيها الرماد ويكاد يخنقُ سكانها. تشير أكثر التقارير تحفّظًا، إلى دمارٍ يقارب الثمانين بالمئة من الرقعة العمرانية للؤلؤة الفرات. حتى في أسوأ كوابيسهم لم يتخيّل الديريون أن (عجاجًا) بهذه الشدّة قد يزور ضفّتهم، ويدفن ملامحَ الذكريات التي كانت آخر ما احتفظوا به عن مدينةٍ غطّى الرمادُ كلّ ورودها المُندّاة.


عن الدير التي أتذكّرها أريد أن أكتب. عن الدير التي هدموها أريد أن أكتب. عن الدير التي سنبنيها أريد أن أكتب. عن أهلها الطيبين. عن الزرع والطين. عن أغنياتها الآسرة. عن فراتنا العذب. عن الكليجة وتشيدان التشاي.



مثلَ قصيدةٍ أفكر في مدينتي. قصيدةٍ تسمح لصوتٍ يسكنُ أذني بالحضور في مشهدٍ قديمٍ قِدَمَ هذا النهر: نشطف الحوش، نمدّ حصيرنا الذي لا آخرَ له.. تغربُ الشمس. أسمع الحساسين تغنّي: “صبّ من دمّك للحريّة.. سمّعهم صوت الديرية”. يتردد صداه في السهول، يهزّ سنابل القمحِ والقطن الذي يوشك على السقوط. تردّد المدينة، تردّد القرى المجاورة.. العالم بأسره يسمعه من نداوته. يا ديرنا، يا أمّ الحساسين.

شارك

مقالات ذات صلة