مجتمع
في بلد أنهكته سنوات الحرب، وتناثر أبناؤه بين واقع الهجرة الداخلية والتهجير القسري ومنافي الخارج، بات القطاع التعليمي من أكثر القطاعات تضررًا، وباتت إعادة ترميمه تحديًا كبيرًا ومعقدًا، ويتطلب جهودًا استثنائية وخططًا طارئة للتعامل مع واقع مأزوم ومثقل بالعقبات.
تنوعت المشكلات والتحديات التي تواجه القطاع التعليمي بين الاستهداف المباشر للمدارس من قبل النظام المخلوع، وتحويل عدد كبير منها إلى ركام أو مراكز إيواء للنازحين، ما سبب دمارًا هائلًا في البنية التحتية، ونقصًا حادًا في الموارد الأساسية، وعجزًا عن استيعاب الكثافة الطلابية المتزايدة التي فرضتها طبيعة النزوح، إضافة إلى القصف المتكرر للمدارس، الذي حوّل العملية التعليمية إلى رحلة محفوفة بالمخاطر. تفاقمت هذه الأوضاع بفعل التدهور الاقتصادي، حيث لجأت الكثير من العائلات إلى دفع أطفالها إلى سوق العمل، أو حرمتهم من التعليم بسبب عجزها عن تغطية أبسط نفقاته، حتى لو اقتصرت على القرطاسية والملابس المدرسية. كل هذه العوامل مجتمعة فاقمت ظاهرة التسرب الدراسي، وحوّلت التعليم من حق أساسي إلى رفاهية بعيدة المنال لكثير من الأطفال السوريين.
وبحسب آخر إحصائية لليونيسيف، فإن أكثر من 2.4 مليون طفل خارج المدرسة في سوريا، ومليون طفل آخر معرضون لخطر التسرب. وحذرت اليونيسيف في تقريرها من أن هذا الواقع “يزيد من خطر عمالة الأطفال، وزواج الأطفال، والاتجار بهم، وتجنيدهم واستخدامهم من قبل أطراف النزاع”.
رغم أن سقوط النظام أزال بعض العقبات مثل الاستهداف الممنهج للمدارس، لكن في المقابل ظهرت تحديات جديدة، مثل عودة النازحين في المخيمات إلى مدنهم وقراهم، وعودة اللاجئين من الخارج محملين بتجارب تعليمية مختلفة ومتباينة، ولغات أجنبية، ما وضع الحكومة الجديدة أمام مسؤوليات جسيمة، منها التعامل مع صدمة اندماج الأطفال في نظام تعليمي هش، يفتقر للمرونة والموارد الكافية، وعاجز عن استيعابهم.
لم يُولِ النظام المخلوع اهتمامًا حقيقيًا للتعليم، رغم أن المدارس والجامعات السورية خرّجت طلابًا متميزين في مجالات عدة، لكن لم يكن هذا النجاح ثمرة دعم حكومي رسمي، بل كانت ثمرة جهود فردية بذلها طلاب ومعلمون استثمروا في عقولهم متجاوزين التحديات والإهمال.
وقد تجلت ملامح هذا الإهمال في البنية التحتية المتهالكة في المدارس والجامعات، والمدن الجامعية “المساكن الطلابية” التي كانت تفتقر لأدنى المقومات الإنسانية.
إضافة إلى أن العقول اللامعة والمتفوقين كانوا مقيدين إلى حد كبير في المنظومة التعليمية التقليدية، التي لم تكن تحتفي بالاختلاف ولا تشجع التفكير النقدي، بل إن الكثير منهم تعرضوا للمضايقات والملاحقة الأمنية، مما دفعهم للبحث عن مساحات خارج حدود الوطن ليحققوا فيها النمو الأكاديمي والمهني.
أمام الواقع المتهالك، لم يعد من الممكن الاكتفاء بالحلول الترقيعية التي تم اعتمادها خلال سنوات الحرب. فالحكومة الجديدة مطالبة بوضع رؤية واستراتيجية شاملة تعيد الاعتبار للتعليم، وتتعامل معه كونه أساسًا لبناء الإنسان والدولة.
من أهم الخطوات الملحة في هذه المرحلة، إعداد إحصاءات دقيقة ومحدثة بشكل مستمر عن واقع التعليم، وتجنب الاعتماد على بيانات قديمة أو غير موثوقة صادرة عن حكومة النظام المخلوع. فغياب الإحصاءات الدقيقة لا يعني فقط غياب الأرقام، بل شللًا في القدرة على التشخيص، ورسم السياسات، وتحديد الأولويات، وتلبية الاحتياجات الفعلية، والتخطيط الفعال، واتخاذ الإجراءات المناسبة.
إلى جانب ذلك، تبرز الحاجة الملحة لتكاتف الجهود بين مختلف الوزارات، وتحقيق تعاون حكومي بين مختلف القطاعات ليشكل هذا التعاون جسماً واحدًا ينهض بالتعليم ويرمم الواقع المؤلم الذي وصل إليه هذا القطاع في سوريا. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يساهم التنسيق بين وزارتي التعليم ووزارة التقانة والاتصالات في تطوير منصات إلكترونية وتطبيقات تعليمية مجانية موجهة للفئات الأكثر هشاشة، مثل المتسربين أو العائدين من دول اللجوء.
وبالمثل، يمكن أن يتيح التنسيق والتعاون بين وزارة التربية ووزارة الإعلام طرح قنوات فضائية تعليمية، وإنتاج محتوى مرئي يعيد شرح المناهج بطرق مبسطة يتم بثها بشكل منتظم لتكون مكملة لعملية التعليم في المدارس.
هذا النوع من المشاريع لا يقتصر فقط على سد الفجوة التعليمية، بل يساهم أيضًا في خلق وعي عام بقيمة وأهمية العلم، ويعيده إلى الواجهة كقضية مجتمعية أساسية لها أولويتها.
ومن جهة أخرى، يمكن دعم المشاريع الاستثمارية التعليمية، وتقديم تسهيلات وامتيازات للمستثمرين الراغبين في افتتاح مدارس خاصة أو مشاريع تدعم القطاع التعليمي، وتوفر بيئات تعليمية تراعي الاحتياجات ومتطلبات المرحلة، وتخفف من عبء الكثافة الصفية. فكثير من العائلات قد تكون قادرة على تحمل تكاليف التعليم، لكنها تواجه صعوبة في إيجاد مقاعد دراسية شاغرة أو بيئات تعليمية ملائمة.
ومن الضروري عدم تجاهل دور المعلم، فهو العمود الفقري لأي خطة إصلاح للعملية التعليمية والتربوية. وبالتالي، فإن زيادة رواتب المعلمين وتدريبهم وتطوير مهاراتهم وأدواتهم، ليس على صعيد الكفاءة التربوية فحسب، بل أيضًا على صعيد المهارات الاجتماعية والقدرة على التعامل مع الاحتياجات النفسية، بما يتناسب مع التحديات والمتغيرات والواقع الذي فرضته سنوات طويلة من الحرب، أمرٌ ضروري. ولا يمكن أن يقوم المعلم بدوره في ظل الإهمال والواقع المتردي، مثل الدخل المحدود وغياب الأدوات التي تدعمه في رحلته الشاقة.
وإعادة الاعتبار للتعليم ودعمه مسؤولية جماعية لا يمكن حصرها بدور الحكومة، وإن كانت تتحمل المسؤولية الأكبر. لأن بناء مستقبل تعليمي مستقر وعادل في سوريا، يتطلب إرادة ورؤية، والتزامًا وشراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع. ويمكن اعتبار الأسرة نقطة الانطلاق الأولى، إذ لا بد أن تؤمن بأهمية وضرورة التعليم، ليس من أجل بناء مستقبل طفل فحسب، بل من أجل بناء الوطن.
كما تلعب منظمات المجتمع المدني والمنظمات المحلية دورًا حاسمًا في إعادة ترسيخ فكرة التعليم داخل المجتمعات المتأثرة بالحروب، من خلال حملات الدعم والتوعية، وتنفيذ برامج وإنشاء مساحات تعليم مؤقتة للأطفال المتسربين، إضافة إلى دعم مشاريع إعادة الإعمار وتأهيل المدارس.
إن استثمار الدولة في التعليم، وتعاون الوزارات، ومشاركة المجتمع المدني، ووعي الأسرة، كلها عناصر تشكل حجر أساس لأي نهوض حقيقي.
والنقاط التي طرحت في هذا المقال بما فيها من أفكار ومبادرات، ليست إلا أمثلة بسيطة توضح كيف يمكن للدعم أن يبدأ من خطوات بسيطة غير مكلفة مقارنة بالفرق الكبير والتسهيلات التي تقدمها للأفراد.
وإنتاج الحلول بما يتناسب مع الواقع أمرٌ ممكن وبسيط، خاصة إذا تم استيراد تجارب ناجحة من دول أخرى متقدمة، أو استلهام تجارب مجتمعات مرّت بظروف مشابهة، وتمكنت من النهوض عبر التعليم، وجعلته ضمن الأولويات.