آراء

عز الدين القسام: السلاح في يد الفكرة

أبريل 19, 2025

عز الدين القسام: السلاح في يد الفكرة

مقدمة: عندما يتكلم الصمت 

ليس لدينا عن عز الدين القسام سوى صورة واحدة. وجهٌ ساكن، لحية بيضاء، وعمامة مهيبة، ونظرة تخفي أكثر مما تُظهر. صورة أقرب إلى الأيقونة منها إلى الإنسان، إلى الجلال منها إلى التفاصيل.

إنها لا تُخبرنا عن ضحكه أو غضبه، ولا تُسمعنا حديثه من صمته، ولا تبوح بشيء من حضوره بين الناس. صورةٌ تُجَلِّيه وتُغَيّبه في آن، تُحيطه بالمهابة وتَسلِبنا ملامح العاديّ فيه، لتتركنا أمام أسطورة لا تسرد شيئًا عن الإنسان الذي كان.

لكن خلف هذه الثياب البيضاء، كان القسام أكثر من رجل دين، وأكبر من واعظ أو مقاتل. كان مشروعًا حيًّا لمقاومةٍ لا تُختزل في عباءة ولا تُقاس بطول اللحية.

من جبلة إلى حيفا، من ساحات الشام إلى أحراش فلسطين، كان القسام مشروعًا لفكرة تسبق زمانها: أن لا تحرر بدون مقاومة، وأن الإيمان لا يُقاس بكثرة المواعظ، بل بمدى الاستعداد لدفع الثمن.


التكوين الأول: من جبلة إلى الأزهر

وُلد عز الدين القسّام عام 1882 في مدينة جبلة الساحلية، وسط أسرة متواضعة جعلت من تدريس القرآن وتعليم الفقه رسالتها الأولى. نشأ في بيئة يغلّفها الفقر، ويهيمن عليها الاستعمار، وتخنقها حالة عامة من الركود. وفي عيني الفتى، بدا التعليم بوابة الفهم الأولى للعالم، وطريقًا لا بديل عنه لاختراق جدار التناقضات.

في السادسة عشرة من عمره، شدّ رحاله إلى القاهرة، حيث انصرف إلى الدراسة في الأزهر الشريف، ومكث هناك نحو عشر سنوات، يتلقى علوم الشريعة والفقه واللغة، وينهل من معينها ما استطاع إليه سبيلًا.

عاد إلى مدينته سنة 1906، وقد نضج وعيه وتوسّعت آفاقه، فشرع في الإمامة والتدريس في جامع جبلة الكبير. لكنّ خطابه لم يكن محصورًا في الطقوس، بل سرعان ما تطلّع إلى واقع بلاده الخاضع للاحتلال الفرنسي.حيث كانت البلاد ترزح تحت نيرٍ أجنبيٍّ ثقيل، وتتحسّس طريقها نحو الخلاص.

. ومع اندلاع المقاومة في شمال سوريا، انخرط القسام في صفوف الثوار بقيادة عمر البيطار، فكانت تلك التجربة الأولى في حمل السلاح، حين اختلط الدعاء بالرصاص، والمنبر بالخندق.

وحين هُزمت الثورة، لم يسلك درب التراجع أو التفاوض كما فعل بعض القادة. بل حمل الفكرةَ والسلاح، وغادر إلى فلسطين، وقد بدا له أن حدود سايكس-بيكو لن تستطيع فصل المعركة الواحدة.


من الثورة السورية إلى حيفا: تأسيس المنهج القسّامي

دخل القسام إلى فلسطين لا كغريب، بل كوريث نضالٍ لم يتوقّف، ومجاهدٍ ما تزال المعركة تناديه من جبهةٍ إلى أخرى. استقر في مدينة حيفا عام 1920، وبدأ إمامًا ومدرّسًا في جامع الاستقلال. غير أن المسجد لم يكن المقصد النهائي عنده، بل نقطة الانطلاق نحو الناس؛ إلى القرى والحقول ومجالس العمّال والفلاحين.

بنى القسام علاقاته ببطء وصبر، يزرع الوعي ويسقي جذور التنظيم. لم يكن خطابه مباشرًا ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، لكنه كان يرسّخ تدريجيًا أن فلسطين تُنتزع، ولا تُعطى. وفي عام 1931، بدأ أولى محاولاته المسلحة بهجوم محدود على مستعمرة “الباجور”، ثم عاد إلى العمل السري بعد انكشاف الخلية.

في هذه المرحلة، شكّل القسام نواة “الجماعة القسّامية”، وهي تنظيم صغير شديد الانضباط، ضمّ خليطًا غير تقليدي من المتدينين، والفقراء، والعائدين من دروب العنف والبطالة، ممن أعادتهم الفكرة إلى طريق المقاومة. لم يكن التنظيم طائفيًا، ولا طبقيًا، بل وحدت عناصره قضية واضحة ومباشرة: تحرير الأرض بالسلاح.


الاستشهاد: من يَعْبُد تبدأ الثورة

في نوفمبر 1935، خرج القسام مع مجموعة صغيرة من رجاله نحو أحراش “يعبد”، بعد أن باتت خطة الانتفاضة جاهزة. لكن وشاية ما أوصلت الخبر إلى البريطانيين، فحاصرتهم قوة كبيرة. لم ينسحب القسام، ولم يستسلم. قاتل حتى الطلقة الأخيرة، واستُشهد مع عدد من رفاقه، في ملحمة صارت لاحقًا فاتحة العمل المسلح المنظم ضد الاحتلال البريطاني في فلسطين.

لم يكن استشهاد القسام نهايةً لحكايته، بل بدايته الحقيقية. فبعد أقل من ستة أشهر، اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936–1939)، وكان رجال القسام نواتها الصلبة. أوالروح التي أمدّتها بالعزم. تحوّل اسمه إلى رمز، وراية، ونهج. وتوارثته أجيال من المقاتلين، بل واتخذت منه تنظيمات لاحقة اسمًا وهوية، لا مجرّد اسم، بل كرمز لمقاومة لا تعترف بالتسويات.


عز الدين القسام: اسمٌ لا يموت

هناك رجال يعبرون التاريخ كأنهم البرق. لا يحتاجون إلى كثير من الكلام، ولا إلى صور تُخلّدهم. عز الدين القسام أحد هؤلاء. لم يكن يبحث عن مجدٍ شخصي، ولا عن كرسي أو لقب. كان يعرف أن الطريق التي اختارها لن تفضي إلا للشهادة، فاختار أن يخوضها بوعي وبصيرة


من جبلة إلى يعبد، لم تكن المسافة جغرافية فحسب، بل مسيرة رجل اختار أن يحيا خارج منطق الخضوع. علّم القسام الأجيال أن السلاح ليس نقيض الفكر، وأن الإيمان ليس نقيض التحرر، وأن الثورة تبدأ من الخطبة، والخطبة تكتمل بتصديق الفعل.

في هذا الزمن العربي المثقل بالتراجع، يبدو القسام وكأنه يطل علينا من وراء التراب، لا ليذكّرنا بنفسه، بل ليسألنا: “أين أنتم من فلسطين؟ أين أنتم من الحرية؟”
وصدى سؤاله لا يزال يتردّد في كل بيت مهدّم، في كل زنزانة، في كل طلقة تقاوم النسيان. القسام لم يمت. لأنه لم يكن فردًا فقط، بل فكرة. والأفكار لا تُقتل.

شارك

مقالات ذات صلة