“طلت البارودة والسبع ما طل”.. ماذا يعني السلاح للفلسطيني؟
منذ ملك الفلسطينيين طين بلادهم، من أول التاريخ، ومنذ امتلأت أيديهم بالحجر، من أول الاحتلال، ومنذ تحول الحجر في أكفهم إلى كل شيء، إلى السكين من نصل وخشب، وإلى البارودة من حديد ونحاس، وإلى الصاروخ من عرق ودم، وإلى الياسين من جهد وثأر، وإلى العياش من مدى وأبد، وإلى كل قذيفة وصاروخ وغول، وهم يرون مردَّ تلك الأسلحة إلى أصلها، ومرجعها في نسختها الأولى، الحجَر، فلا يملكون أن يروه سلاحهم مستقلًا بذاته دون ملمس الطين ورائحة الحجارة، وإنهم حين يطلبون منهم نزع سلاحهم، فكأنما يطلبون نزع الأرض نفسها، لا الوسيلة التي يدافعون بها عنها، ذاك السلاح غاية في ذاته، ومبدأ ومنتهى.
لم تحصل المقاومة في غزة على سلاحها عبر مرفأ أو مطار، ولم تتسلمه جاهزا كأنما طلبته من تجار “الديب ويب”، ولم يسقط إليها فجأةً من السماء، وإنما هو سلاح مر بمراحل المخاض كأنه أولادها، وُلد من حديد الأرض، وصقل واستوى في نار النفق، ولمع وتزيَّت في ورش التصنيع المحدودة، وبين كل تلك الطرق كم من حامل له مات، وكم من مطور له بترت يده وهو يحاول أن يجرب شيئًا جديدا، يزيد مدى المقذوف، فيقصف المقذوف المدى في عينيه، ويغادر بلا وداع، ولا معركة، وإنما كانت حربه الخاصة، أن يموت وهو يحاول أن يبقى.
مثَّلَ السلاح للفلسطيني الشرف الذي يدفع به دياثة المحتل، والطهر الذي يدفع به نجاسة الاستعمار، فلا يكون تخليه عن سلاحه إلا تخليا عن العرض أولًا، فإن هو تركه فكأنما أسلم نفسه لمغتصبه، وحني رقبته لجزاره، وقبل بأن يموت وغدًا، كان في يديه الموت الآخر، لكنه اختار الموت العادي، كما تساق الخراف إلى مذابحها، ثم ماذا سيجني؟ إن كان سلاحه يورده المهالك وعليه إلقاؤه، فما الذي سيختلف إن ألقى سلاحه انتظارا للنجاة؟ ألن يهلك في الدقيقة المحددة سلفًا ذاتها، لكن بيد خاوية، وظهرٍ محدودب، وصدر مقوسّ، وعين فارغة، لا يملؤها إلا التراب؟
السلاح، ومن غيره، هو الذي أحضر الفلسطيني إلى طاولة التفاوض، وهو الذي أرغم الإسرائيلي على الجلوس للتفاوض، ثم في التفاوض يتخيل المفاوض العدو، والوسيط الغبي، أن ما أتى بالمقاوم إلى هنا يقبل المساومة، فما الذي يبقي عدوه متأهبًا لتفاوضه إن هو ألقى سلاحه، وما التباحث الذي يبقى وقد ماتت الفكرة، وانتحر المنطق؟ لا شيء سوى الرحيل بصمت عن الأرض، وتوديع للحق وأهله، وقبول بما سيروق لكتاب التاريخ كتابته عن ذلك الفصل من العار، وهو ما لا يقبله الفلسطينيون أبدًا، فأي مجنون ذلك الذي قد يرفع رصاصة من الأرض، ثم يلقيها إلى مكانها من جديد؟ ومن الأحمق الذي سيستشهد إخوته وهم يصنعون له السلاح، ثم يتخلص من السلاح خشية أن يلحق بهم -في أقصى الأحوال- شهيدا!
ثم ماذا جنى الذي ألقوا السلاح سوى الموت المعجل، وما الذي تحقق لهم من وعود سوى الوعيد المؤجل، وماذا تبقى لهم من التاريخ سوى مضرب الأمثال بالحماقات الثقال، وماذا تركوا لمن خلفهم سوى عاقبة من انطلت عليهم الخديعة وظنوا أنهم يشترون سلامهم بتسليمهم، فما لبثوا أن حُصدوا ذات ساعة، والسبب الوحيد أنهم ألقوا سلاحهم، ذلك السكين والخنجر والبندقية، لا أكثر، الذين كانوا يمثلون ما هو أكبر من سلاح، وما هو أدنى من زوجة، وما هو أعظم من حياة!
حتى في المبدأ القرآني لقواعد القتال، حذر من ترك الأسلحة فيمال على التاركين ميلة واحدة، وكذلك أوصى القائمين بأن يأخذوا أسلحتهم وأمتعتهم، إذا أرادوا الصلاة، فكأنما من شروط صحة الفريضة ألا تفرط في بندقيتك، فما الذي يبقى للمجاهد من جهاده إن هو صلى وقام، وتعبد وصام، بكفين فارغتين من السلاح، ما الفارق بينه وبين معتكفٍ بالليل والنهار، لا يريد مواجهة الواقع، لأنه سيجد نفسه مطالبا بتطبيق كل تلك الآيات التي قرأها، ولعل ذلك هو ما يرعبه بالتحديد.
تقول الأهزوجة الأصيلة “طلت البارودة والسبع ما طل”، فني الولد، استشهد الأسد، وراحت حياته لآخر مرة، قُصف، أحرق، تفتت، تفحم، تحلل؟ المهم، أن تبقى البارودة كما هي، من دون تغيير، وكأنها التي تعلن الخبر، وتكتب الرثاء، وتنعى حاملها، وتبقى شاهدةً على ما فات، وممتدةً بعمر جديد، منتظرة العريس القادم بعد قليل!