آراء

هل فهمنا ما قام به صلاح الدين الأيوبي حقًا؟!

أبريل 8, 2025

هل فهمنا ما قام به صلاح الدين الأيوبي حقًا؟!

ما نراه اليوم من مأساة إنسانية في غزة يُفرز بوضوح استحضارًا تلقائيًا لشعوبنا العربية لصورة “المنقذ” والمخلّص، حيث يتبادر إلى أذهان الكثيرين اسم صلاح الدين الأيوبي، وكأن القضية في فلسطين لا تُحل إلا بظهور بطل خارق، مما يعكس عمق الأزمة في الوعي الجمعي العربي المتعلق بفهم النصر وسبل التحرير.


وإذا عدنا إلى أسباب ذلك الاستدعاء، نجد أن هناك معاني معتبرة يجب أن تُؤخذ بالحسبان؛ فتجربة القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس تُعد واحدة من أبرز المحطات التاريخية التي استحضرتها الأجيال المتعاقبة باعتبارها رمزًا للنهضة والتمكين والانتصار. إلا أن التناول السائد لهذه التجربة ظل حبيس “الإطار الحسي والعاطفي”، مع التركيز المفرط على شخص القائد، دون الالتفات الكافي إلى البنية المؤسسية والخطة المنهجية التي مكّنت من تحقيق هذا الإنجاز الكبير وهو تحرير الأقصى من براثن الاحتلال الصليبي.

فهذه النظرة القاصرة والقراءة الاختزالية كرّست مفهومًا خطيرًا يفيد بأن النهوض مرهون بظهور قائد استثنائي، وهو ما أدى إلى غياب الرؤية الشاملة القائمة على العمل الجماعي والمؤسسي، وتقديس الفرد على حساب المنظومة الكاملة، وهي إشكالية فكرية ترتبط بثقافة الاتكال والتواكل وانتظار “المنقذ” أو “المخلّص”، ما ساهم في تغييب أهمية التخطيط والتهيئة الشاملة لعوامل النصر لشعوبنا العربية.


بل إن صلاح الدين نفسه لم يكن أسيرًا لهذه الرؤية الفردانية الاختزالية، بل على العكس، فقد عبّر عن قناعته الصريحة بأهمية دور الفريق والمؤسسات المساندة له في تحقيق الفتح، كما تجلّى ذلك في إحدى مقولاته الشهيرة: “لا تظنوا أني فتحت البلاد بالسيوف، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل”.
هذه العبارة، التي غالبًا ما تُذكر دون تفكير أو تحليل عميق لها، تعكس بوضوح إدراك صلاح الدين للدور الحاسم الذي لعبه مستشاره القاضي عبد الرحيم، الملقب بالقاضي الفاضل، في إدارة الدولة وتوجيه السياسات وتنسيق الجهود بين القيادة والمرؤوسين.

فلقد كان القاضي الفاضل رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ إذ امتلك من الكفاءة والخبرة والذكاء ما أهّله لتولي مواقع عليا في الدولة الفاطمية قبل مجيء الزنكيين، ثم ليكون أحد أعمدة دولة صلاح الدين الكردي، مساهمًا في صياغة الرؤية السياسية، وإدارة العلاقات الداخلية والخارجية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتنظيم الجهود العسكرية والإدارية.


فمن هذه النظرة والزاوية نجد أن نجاح التجربة الأيوبية لم يكن نتاج بطولة فردية، بل ثمرة لتكامل الأدوار بين القيادة والمستشارين، وبين السيف والقلم، وبين التخطيط والتنفيذ. لذلك تبرز لنا ضرورة إعادة قراءة هذه التجربة الأيوبية قراءة منطقية عملية بعيدة عن القراءة السطحية العاطفية، حتى نستخلص الدروس القابلة للتطبيق في زماننا الراهن.

ولتحقيق ذلك، هناك حاجة ماسة إلى تطوير مناهج تعليمية تُقدّم التجارب التاريخية الكبرى في ضوء معايير الإدارة والقيادة الحديثة، بحيث تبرز أهمية العمل الجماعي، وتُقدّم نماذج من الكفاءة المؤسسية والحوكمة الرشيدة. وكما يتعيّن على مؤسسات التعليم والتدريب أن تغرس في الجيل الحالي مفاهيم مثل التفكير الاستراتيجي، والقيادة التعاونية، وبناء الفرق، والوعي المؤسسي، بدلًا من الاتكال على بروز أفراد ذوي كاريزما خاصة.


وحتى يكون حديثنا عمليًا تطبيقيًا، فهذه جملة من القواعد في السلوكيات التي اعتمدها القائد صلاح الدين، ومنها: “إعادة بناء مفهوم القيادة”، فلم يكن صلاح الدين القائد الفرد المتفرّد بكل القرارات، بل كان محاطًا بمجموعة من الكفاءات المتنوعة، أبرزهم القاضي الفاضل الذي مثّل العقل الإداري والاستراتيجي لمشروعه. ومنها: “تعزيز دور الكتابة والتخطيط”، فقد برز هذا الجانب بوضوح في اعتماد صلاح الدين على “قلم” القاضي الفاضل، الذي لم يقتصر دوره على المراسلات، بل امتد إلى صياغة السياسات العامة، وتنظيم الإدارة، وكتابة المعاهدات، والتواصل مع القوى الإقليمية.
فلقد كان القاضي الفاضل بمثابة “مركز تفكير” متكامل، يستشرف التحديات ويقترح الحلول المناسبة، وينسق الرؤية الكبرى للدولة الأيوبية.


ومن المرتكزات أيضًا: “ترسيخ العمل المؤسسي”، فقد قام مشروع صلاح الدين على بنية إدارية قوية، بدأت بإصلاح الجهاز البيروقراطي الفاطمي في مصر قبل سقوط الدولة وبعدها، فتم تأسيس النظم القائمة على العدل، وتخفيف الأعباء الضريبية، وضبط الموارد، وتفعيل القضاء ونزاهته، وتوزيع المسؤوليات بوضوح بين الولاة والقادة العسكريين والمستشارين وتوزيع المهام.

ومن تلك الممارسات الأيوبية: “ربط التاريخ بالواقع”، فقد أدرك المجاهد صلاح الدين أهمية الاستفادة من التجارب السابقة دون تكرارها حرفيًا، فبنى مشروعه على إعادة توحيد الجبهة الإسلامية وتجاوز النزاعات المذهبية والسياسية.


لذلك نجد أن الاستفادة من التجربة الأيوبية تكمن في استخراج مقوّمات النهوض الحضاري ومواجهة قوى الاحتلال، وتحويل كل الخطط المكتوبة إلى واقع عملي وأدوات عمل فعّالة، حتى نستوعب التحديات المتعلقة بحقوق شعوبنا الإسلامية وسلامتهم واستقرارهم في أوطانهم آمنين مطمئنين.

شارك

مقالات ذات صلة