سياسة

السودان يواجه الإمارات في محكمة العدل: عدالة مؤجلة أم تصعيد حتمي؟

مارس 13, 2025

السودان يواجه الإمارات في محكمة العدل: عدالة مؤجلة أم تصعيد حتمي؟

في تطور غير مسبوق، قررت الحكومة السودانية نقل صراعها مع الإمارات من ميادين الحرب بالوكالة إلى قاعات العدالة الدولية. حيث رفع السودان دعوى أمام محكمة العدل الدولية يتهم فيها الإمارات العربية المتحدة بتوريد السلاح والدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع، التي يُزعم أنها ارتكبت فظائع ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية في غرب دارفور، خاصة ضد قبيلة المساليت. هذه الدعوى ليست مجرد إجراء قانوني؛ إنها رسالة سياسية تحمل في طياتها اتهامًا صريحًا لإحدى القوى الإقليمية الكبرى بأنها طرف في الحرب السودانية، وليست مجرد وسيط أو داعم محايد.

هذا التحرك يفتح المجال لعدد من التساؤلات: ما هي الأبعاد القانونية لهذه القضية؟ كيف يمكن أن تؤثر على ميزان القوى الإقليمي؟ وما تداعياتها على مستقبل العلاقات السودانية-الإماراتية؟ دعونا نحلل هذا الحدث من زاوية نقدية تجمع بين القانون والسياسة والجيوبوليتيك.


لطالما اتهمت الحكومة السودانية الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عبر تزويدها بالأسلحة والمعدات العسكرية وحتى التمويل المالي. هذه الاتهامات لم تأتِ من فراغ؛ بل دعمها خبراء أمميون وتقارير استخباراتية أمريكية، مما أعطى الشرعية لهذه الدعوى أمام محكمة العدل الدولية. وفقًا للدعوى المقدمة، فإن الإمارات لم تكتفِ بتقديم الدعم السياسي والمالي، بل لعبت دورًا مباشرًا في تمكين الدعم السريع من ارتكاب فظائع ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. من بين الجرائم الموثقة القتل الجماعي، التهجير القسري، الاغتصاب، الحرق الممنهج للقرى، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة. وبالنظر إلى اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تعتبر الإمارات طرفًا فيها، فإن أي دولة يُثبت أنها دعمت أو سهلت الإبادة الجماعية تتحمل مسؤولية قانونية مباشرة. هذا هو جوهر الحجة السودانية: أن الإمارات ليست فقط داعمًا للدعم السريع، بل متواطئة في جرائم الإبادة الجماعية، كما تُلِحُّ السودان على الإمارات بوجوب دفع تعويضات مالية مستحقة لها مقابل الأضرار.


ترتيبًا على ما سبق، سارعت أبو ظبي إلى رفض الاتهامات، ووصفتها بأنها “اتهامات تفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي”، بل اعتبرتها مجرد “حيلة دعائية سودانية لصرف الأنظار عن جرائم الجيش السوداني نفسه”. وتعتمد استراتيجية الإمارات القانونية على عدة محاور:

  • التشكيك في اختصاص محكمة العدل الدولية للنظر في القضية، بحجة أن النزاع ليس بين دولتين، بل هو صراع داخلي سوداني، والإمارات ليست طرفًا رسميًا فيه.
  • إثبات غياب الأدلة القاطعة التي تربطها بشكل مباشر بعمليات الإبادة الجماعية، مستفيدةً من غياب إدانة رسمية لها من قبل مجلس الأمن أو الأمم المتحدة.
  • اللجوء إلى الضغط الدبلوماسي لإغلاق القضية سياسيًا قبل أن تأخذ أبعادًا دولية تؤثر على سمعتها.

لكن هذه الاستراتيجية ليست محصنة من الفشل، لأن التقارير الأممية والمواقف الأمريكية تشير إلى أن دعم الإمارات لقوات الدعم السريع كان موثقًا، ما يجعل هذه القضية تأخذ منحى جادًا.


الأبعاد القانونية والسياسية للدعوى

في حال قبلت محكمة العدل الدولية النظر في القضية، فسيكون ذلك سابقة قانونية فارقة في مسألة مسؤولية الدول عن دعم الميليشيات المتورطة في جرائم ضد الإنسانية. مثل هذا القرار قد يفتح الباب أمام فرض عقوبات دولية على الإمارات، فضلًا عن تمهيد الطريق لقضايا مماثلة ضد دول أخرى يشتبه في تقديمها دعمًا لجماعات مسلحة متورطة في انتهاكات مشابهة.

كما أنه، مهما كانت النتيجة القانونية، فإن مجرد رفع الدعوى يضع الإمارات تحت مجهر الرقابة الدولية، وهو أمر قد يؤثر على علاقاتها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا. فالملف ليس جديدًا على الساحة، إذ سبق أن أثيرت اتهامات مماثلة في تقارير أممية وداخل أروقة الكونغرس الأمريكي، حيث جرى تسليط الضوء على الدور الإماراتي في دعم قوات الدعم السريع. وبذلك، فإن هذه القضية قد تترسخ في الذاكرة الدبلوماسية كإحدى المحطات التي قوّضت مساعي الإمارات في تقديم نفسها كفاعل إقليمي يحظى بالقبول الدولي.

وبالنسبة للخرطوم، لا تقتصر هذه القضية على بعدها القانوني، بل تأتي في سياق استراتيجية أوسع تهدف إلى تدويل الصراع وكسب الدعم الدولي ضد قوات الدعم السريع وحلفائها الإقليميين. وإذا استمرت القضية وكُشفت أدلة دامغة تدعم الاتهامات، فقد تجد الإمارات نفسها أمام ضرورة مراجعة استراتيجياتها الإقليمية، لا سيما في أفريقيا، حيث تنخرط بشكل واسع في دعم فصائل سياسية وعسكرية. ومن شأن هذا التطور أن يعيد تشكيل نفوذها في السودان وامتداداته في القرن الأفريقي، بما في ذلك إثيوبيا وليبيا، حيث تلعب أبو ظبي دورًا محوريًا في المشهد السياسي والعسكري. وعلى هذا الأساس، فإن تداعيات القضية لن تقتصر على السودان وحده، بل قد تتجاوز ذلك لتعيد رسم ملامح السياسة الخارجية الإماراتية في المنطقة.


الأبعاد الجيوسياسية للصراع السوداني-الإماراتي

غنيّ عن البيان أن المصالح الإماراتية تمتد في السودان إلى ما هو أبعد من المشهد السياسي والعسكري الظاهر، إذ تسعى أبو ظبي لضمان هيمنتها على طرق التجارة في البحر الأحمر، مستفيدة من موقع السودان الاستراتيجي وموانئه الحيوية، مثل بورتسودان وسواكن، التي باتت موضع تنافس إقليمي ودولي. دعم الإمارات لقوات الدعم السريع ليس مجرد تحالف عسكري، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إيجاد قوة موازية قادرة على التأثير في شرق السودان، بما يتيح لأبو ظبي تعزيز وجودها بالقرب من هذه الموانئ المهمة. ولا يخرج ذلك عن سياق السياسة الإماراتية العامة في أفريقيا، حيث كثّفت استثماراتها في الموانئ، في محاولة لموازنة النفوذ التركي والقطري المتزايد في المنطقة.

وعلى نحوٍ مُماثل، فإن الصراع في السودان هو جزء أيضًا، من صراع إقليمي أوسع، حيث تتقاطع فيه المصالح الإماراتية والسعودية والقطرية. فالسعودية، رغم دعمها الجزئي للجيش السوداني، تحافظ على مسافة حذرة، خشية أن يؤدي انهيار قوات الدعم السريع إلى تقوية نفوذ الإسلاميين داخل الجيش، وهو سيناريو لا ترغب فيه الرياض. أما قطر، التي خسرت نفوذها في السودان بعد سقوط نظام البشير عام 2019، فتتابع الوضع بحذر، إذ قد يشكل تراجع الدور الإماراتي فرصة لاستعادة تأثيرها في المشهد السوداني. في المقابل، تعمل الإمارات على تحصين وجودها، خشية أن تعيد الدوحة دعمها للحركات الإسلامية، التي قد تهدد المصالح الإماراتية في السودان مستقبلاً.

ومن اللاعبين المهمين في الصراع، جمهورية مصر العربية، فبالنسبة لمصر، يشكل السودان امتدادًا لأمنها القومي، لكنها تتردد في التدخل العسكري المباشر بسبب الأوضاع الداخلية المعقدة. هنا تلعب الإمارات دورًا مزدوجًا؛ فمن جهة تدعم قوات الدعم السريع، لكنها في الوقت نفسه تحاول تهدئة القاهرة، لضمان عدم حدوث تدخل مصري حاسم لصالح الجيش السوداني. غير أن استمرار الحرب قد يجعل التدخل المصري أمرًا حتميًا، وهو ما قد يضع النفوذ الإماراتي في مواجهة مباشرة مع المصالح المصرية، ويؤدي إلى إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية في السودان وفقًا لمعادلات جديدة.


كما أن المواجهة غير المباشرة بين الإمارات وتركيا لها أبعادٌ في هذا الصراع، فالعلاقات السودانية-التركية شهدت تحولات حادة منذ الإطاحة بالبشير، حيث فقدت أنقرة امتيازات استراتيجية، من بينها مشروع إدارة جزيرة سواكن على البحر الأحمر، وهو ما عزز النفوذ الإماراتي في السودان. رغم ذلك، لا تزال تركيا تحتفظ بأوراق ضغط من خلال بعض الضباط داخل الجيش السوداني الذين ينتمون إلى التيار الإسلامي، وهو ما تعتبره الإمارات تهديدًا لمصالحها. ومن هنا يُدرك أن دعم أبو ظبي لقوات الدعم السريع ليس مجرد مسألة تكتيكية، بل يأتي في إطار مواجهة النفوذ التركي، ومنع أي احتمال لإحياء التحالف السوداني-التركي الذي ازدهر في عهد البشير. وإذا استمر النزاع، فإن السودان قد يتحول إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين تركيا والإمارات، على غرار ما حدث في ليبيا، لكن بأساليب مختلفة وفاعلين جدد.


ختاما، إن رفع السودان دعوى ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية يمثل تصعيدًا غير مسبوق في العلاقات الثنائية بين البلدين. وبينما تحاول أبو ظبي التملص من الاتهامات عبر التشكيك في مصداقيتها، فإن الأدلة الموثقة وتقارير المنظمات الدولية قد تجعل من الصعب على الإمارات تبرئة نفسها تمامًا. إذا مضت المحكمة في نظر القضية، فقد تكون لهذه الخطوة تداعيات واسعة النطاق على سياسات الإمارات الإقليمية، وعلى النزاع الدائر في السودان. لكن في النهاية، تبقى هذه القضية مفتوحة على احتمالات متعددة، تتراوح بين التسوية الدبلوماسية والتصعيد القانوني، مما يجعلها اختبارًا حقيقيًا لمستقبل العلاقات السودانية-الإماراتية وللقانون الدولي في معالجة دور الدول في النزاعات المسلحة.

شارك

مقالات ذات صلة