Blog
في رواية “النمر” لجوزيبي توماسي دي لامبيدوزا، يلاحظ الأمير فابريزيو المسن بمزيج من الاستسلام والحكمة، “إذا أردنا أن تظل الأمور على ما هي عليه، فلا بد أن تتغير الأمور”. هذا التصريح المتناقض، الذي أدلى به أثناء الاضطرابات التي شهدتها إيطاليا في القرن التاسع عشر، يلتقط جوهر التحول المجتمعي – وهو موضوع يتردد صداه بشكل مخيف مع الحقائق الحالية في سوريا ما بعد الأسد. مع ضعف قبضة النظام القديم وصعود قوى جديدة على الساحة السياسية، يتكيف العديد ممن ازدهروا ذات يوم في ظل سلالة الأسد الآن من أجل البقاء، ويغيرون ولاءاتهم للتوافق مع السلطات الناشئة. ومثل الشخصيات في رائعة لامبيدوزا، يتعلمون أن البقاء يتطلب في كثير من الأحيان التسوية والبراجماتية والقبول المؤلم للتغيير.
إن سقوط نظام الأسد، مثله انحدار الأرستقراطية في رواية “الفهد”، يمثل نهاية عصر اتسم بالتسلسل الهرمي الصارم وهياكل السلطة الشمولية الراسخة. فعلى مدى عقود من الزمان، كان حكم بشار الأسد مدعوماً بشبكة من الموالين الذين استفادوا من الوضع الراهن. ولكن مع تفكك نسيج النظام القديم بسبب انتصار الثورة، أصبح من الواضح أن التشبث بالماضي لم يعد خياراً. فالنظام الذي كان منيعاً ذات يوم أصبح من الماضي. وفي هذا المشهد الجديد، يتطلب البقاء التكيف ــ وهو الدرس الذي فهمه ابن شقيق الأمير فابريزيو، تانكريدي، جيداً عندما أعلن: “إذا أردنا أن تظل الأمور على ما هي عليه، فلابد أن تتغير الأمور”.
وفي سوريا اليوم، يتردد صدى هذا الشعور بين الموالين السابقين للنظام الذين يتحالفون الآن مع القوى الجديدة. إن رجال الأعمال والبيروقراطيين وحتى الضباط العسكريين الذين كانوا ذات يوم مدينين بثرواتهم لنظام الأسد يعيدون تقييم ولاءاتهم، ويشكلون تحالفات مع نفس القوى التي حاولوا ابادتها ذات يوم. ولا يخلو هذا التحول البراجماتي من غموض أخلاقي. فمثل تانكريدي، الذي اعتنق النهضة لتأمين مستقبله، يتنقل هؤلاء الأفراد عبر شبكة معقدة من البقاء والمصلحة الذاتية. ومع ذلك، تثير أفعالهم أسئلة غير مريحة: هل يعتنقون التغيير حقًا، أم أنهم يسعون فقط إلى الحفاظ على امتيازاتهم تحت ستار مختلف؟
إن أوجه التشابه بين “الفهد” وسوريا ما بعد الأسد تمتد إلى ما هو أبعد من التكيفات الفردية إلى المستوى المجتمعي الأوسع. ففي رواية لامبيدوزا، يفسح انحدار الأرستقراطية المجال لصعود طبقة برجوازية جديدة، لكن الهياكل الأساسية للسلطة وعدم المساواة تظل دون تغيير إلى حد كبير. وعلى نحو مماثل، في سوريا على الأقل إلى حد اليوم، لم يبشر سقوط نظام الأسد بالضرورة بعصر جديد من العدالة أو الديمقراطية. ولكن بدلاً من ذلك، خلقت المواجهات العسكرية فراغاً ملأته فصائل متنافسة، كل منها يتنافس على السيطرة. وبالنسبة للسوريين العاديين، فهم يتوقون لتغيير ينصفهم وينصف تضحيات أبنائهم. وتظل أنقاض حلب وحمص بمثابة تذكير صارخ بأنه في حين قد تسقط الأنظمة، فإن معاناة الناس غالباً ما تستمر، بغض النظر عن الأسباب الموضوعية المتداخلة.
في حمص، التي كانت تُعرف ذات يوم باسم “عاصمة الثورة”، فإن الدمار يكاد يكون غير مفهوم. فقد تحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض، وتناثرت شوارعها ببقايا حياة انقطعت بسبب عدمية نظام الأسد. والآن أصبحت المدينة القديمة، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، في حالة خراب، وتهدمت مساجدها وكنائسها القديمة بسبب القصف والغارات الجوية. ولكن الدمار المادي ليس سوى جزء من القصة. فقد خلف القمع ندوباً نفسية عميقة، حيث تكافح الأسر مع صدمة الاختفاء القسري والاعتقالات التعسفية وفقدان الأحباء. لقد اختفى عشرات الآلاف من السوريين في سجون النظام، ومصائرهم مجهولة، بينما نزح آخرون، وأجبروا على الفرار من منازلهم والبحث عن ملجأ في مخيمات مكتظة أو أراض أجنبية.
ومن جهة أخرى، فقد عانت حلب، التي كانت ذات يوم المركز التجاري الصاخب في سوريا، من مصير مماثل. فقد تم تدمير المناطق الشرقية من المدينة، التي سيطرت عليها قوات المعارضة لسنوات، بشكل منهجي خلال الحملة الوحشية التي شنها النظام لاستعادة السيطرة. وتحولت المستشفيات والمدارس والأسواق إلى أنقاض، وقتل أو نزح عدد لا يحصى من المدنيين. إن المعاناة في حلب هي رمز للمأساة الأوسع نطاقا للصراع السوري: وهي مأساة لا تتسم بالدمار المادي فحسب، بل وأيضا بتآكل الثقة والمجتمع والأمل.
وفي خضم هذا الدمار، ازدهر الفساد. لقد خلق اقتصاد الحرب فرصا جديدة للاستغلال، حيث يثري أمراء الحرب والمهربون وأصدقاء النظام أنفسهم على حساب السكان المعانين. وغالبا ما تشوب جهود إعادة الإعمار، حيثما وجدت، الفساد وسوء الإدارة، مع استنزاف الأموال من قبل أولئك في السلطة. إن هذا الفساد يعكس الانحلال الأخلاقي الذي صوره لامبيدوزا في روايته، حيث يصاحب انحدار الأرستقراطية فقدان النزاهة والصراع اليائس من أجل البقاء.
ولكن في خضم الفوضى، هناك أيضاً القدرة على الصمود. فكما يجد الشخصيات في رواية “الفهد” السبل لتحمل انهيار عالمهم، فإن أهل سوريا يفعلون ذلك أيضاً. فالأسر تعيد بناء حياتها في ظل الدمار والعوز، والمجتمعات تتحد لمقاومة القهر، ويجرؤ جيل جديد على تخيل مستقبل يتجاوز ندوب الصراع. وتشكل قدرتهم على الصمود شهادة على قدرة الروح البشرية على التكيف، حتى في مواجهة صعوبات لا يمكن تصورها.
وفي حين تستمر سوريا في الإبحار في مستقبلها غير المؤكد، تظل دروس شخصيات لامبيدوزا ذات صلة عميقة. والتغيير، كما تذكرنا الرواية، أمر لا مفر منه. ولكن التحدي الحقيقي يكمن في ضمان أن يؤدي هذا التغيير إلى تقدم ملموس بدلاً من تكرار الظلم الماضي. فهل يؤدي التغيير الى تحول سوريا إلى مستقبل أكثر إشراقاً؟ ربما تكمن الإجابة في الاختيارات التي يتخذها أولئك الذين يمارسون السلطة ــ وأولئك الذين يرفضون السماح بتلميع صور وسجلات جناة أوغلوا في الدم السوري على حساب اعتبارات سياسية أو براغماتية.
في النهاية، فإن قصة سوريا، مثل قصة النمر، هي قصة تكيف وبقاء. وهي تذكير بأن العالم قد يتغير، ولكن الرغبة البشرية في الكرامة والعدالة والأمل لا تزال قائمة. وكما قد يقول الأمير فابريزيو، فإن السؤال ليس ما إذا كنا سنتغير، بل كيف.