مدونات

من أبقراط إلى أبو صفية: مشرطٌ في وجه الموت

مارس 8, 2025

من أبقراط إلى أبو صفية: مشرطٌ في وجه الموت

للكاتب: عماد النشار


في غرفة مضاءة بالشموع، كان التلاميذ يجلسون في خشوع، وأمامهم أبقراط، شيخٌ مهيب الوجه، ينحني قليلًا فوق بردية كُتب عليها كلمات ستخلّدها الأزمان. مرر يده على الحروف كما لو كان يستشعر نبضها، ثم تلا بصوته العميق:

“أقسم أن أكون مخلصًا لمهنتي، ألا أُسبّب أذى، ألا أفشي سرًا، وألا تكون يدي أداةً للموت.”

لم يكن يدري أن قسمه، المكتوب بالحبر على ورق البردي، سيُعاد كتابته بعد ألفي عام، لكن بالدم، على أسِرّة المستشفيات، تحت القصف، بين يد طبيب آخر لم يجلس بين تلاميذه، بل وقف بين الجثث.


في مستشفى كمال عدوان، لم يكن الطب درسًا يُتلى، بل كان معركة تخوضها اليد العارية أمام الموت المتربص. مشرط في مواجهة الصواريخ، وقسم لا يزال يقاوم، لكن على وقع طنين مولّد كهربائي يوشك على التوقف. في الرواق، حيث تختلط رائحة الكحول بالدم والنار، كانت الأصوات تنخفض كأن الجدران نفسها تُصاب بالخدر.

في إحدى الغرف، تحت إضاءة واهنة، كان حسام أبو صفية يقبض على مشرطه كما لو كان سلاحًا، يخيط جرحًا بلا تخدير، ويوقف نزيفًا بلا مسكنات، يحاول إنقاذ طفل بالكاد يتنفس، بينما صراخ أمّه يتردد في زوايا المكان. لكن في تلك الليلة، لم يكن حسام طبيبًا فقط، بل كان أبًا. كان في داخله قلبان ينبضان، أحدهما في صدره، والآخر ينام في منزله على وسادة صغيرة، ينتظر وعدًا لم يتحقق.

إبراهيم، ابنه الشبل، الطفل الذي كان يطالبه كل ليلة بقصة قبل النوم، الطفل الذي وعده أن يعود إليه قبل منتصف الليل. نظر إلى ساعته، تجاوزت الثانية. لم يكن يعلم أن الموت كان أسرع منه بخطوة.

جاء الصاروخ. صفير طويل اخترق الهواء، ثم انفجار دوّى في قلب المدينة. اهتزت الجدران، تساقطت الأدوات، وسقط الأمل مع الغبار المتصاعد. هرع حسام إلى الخارج، رأى المستشفى يهتز وكأنه يحتضر. كانت الأجساد متناثرة كدمى محطمة، الصراخ يمتزج بالأنين، والموت يضع توقيعه على كل زاوية.

جال ببصره، يبحث عن أي شيء مألوف، ثم رآه. إبراهيم. كان جسدًا صغيرًا ممددًا وسط الأنقاض، بلا ملامح، بلا صوت. للحظة، توقف الزمن. لم يعد يسمع شيئًا سوى نبض قلبه المتسارع. ركض نحوه، سقط على ركبتيه، مدّ يديه المرتعشتين، حاول أن يزيح الغبار عن وجهه، لكن الوجه لم يكن هناك. كانت هناك بقايا طفل، بقايا ضحكة لن تتكرر، وذاكرة احترقت قبل أن تكتمل.


للحظة، لم يكن طبيبًا، لم يكن حتى إنسانًا، كان كائنًا محطمًا فقد نصفه في رمشة عين. لكن الموت لم يمنحه وقتًا للانهيار. مسح دموعه كما مسح الدم عن يديه. وقف ببطء، التفت خلفه، رأى المرضى على الأسرة، ينتظرون. رأى أطفالًا آخرين، لهم آباء سيأتون في الصباح يسألون عنهم. تنفس بعمق، ثم عاد إلى طاولته الجراحية. لا وقت للحزن. ليس بعد.

لكن الطب لم يعد درعًا يحميه، بل صار جريمة. في 27 ديسمبر 2024، حين اقتحم الجنود المستشفى، لم يكن يحمل مشرطًا، بل كان رافعًا يديه. كان يمكنه أن يرى الرعب في عيون المرضى، وكان يمكنه أن يسمع الأوامر تتردد بلغة لم يكن بحاجة إلى ترجمتها.

صوت حذاء عسكري يخترق الصمت، ثم أمرٌ بارد يعلن اعتقاله. لم يسأل لماذا. كان يعرف الإجابة. جريمته كانت أنه أنقذ من كان يجب أن يموتوا.


في معتقل سدي تيمان، حيث لا مشرط ولا ضماد، وحيث الهواء يُوزّع بالقطارة، جلس حسام أبو صفية في زنزانة ضيقة، يحدّق في الجدار العاري، متسائلًا في صمته: هل كان مخطئًا؟ هل كان يجب أن يتركهم لمصيرهم؟

لكن الإجابة لم تكن في الجدار، بل في ذاكرته، في تلك العيون الصغيرة التي فُتحت من جديد بفضل يديه، في تلك الأمهات اللواتي احتضنّ أبناءهن أحياء، في كل جرحٍ أُغلق، وكل حياةٍ استمرت.

من أبقراط، الذي جعل الطب قسمًا مقدسًا، إلى أبو صفية، الذي جعله شرفًا يُعاقب عليه، كان الطريق طويلًا. ولو أن في هذا العالم ذرة من عدل، لارتفع تمثاله فوق مبنى منظمة الصحة العالمية، لا ليحمل مشرطًا، بل ليحمل شهادة إدانة لعالمٍ يعتقل الأطباء ويطلق القتلة.


قد يكسر المحتل يد الطبيب، لكنه لن يمحو أثرها. قد يُسجن الطبيب، قد تُكسر يداه، قد يُعذب، لكن سيبقى الطبيب. أما من اعتقله، فسيبقى قاتلًا.

شارك

مقالات ذات صلة