مدونات
للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي
لطالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية لاعبًا محوريًا في تشكيل السياسة الدولية، حيث تبنّت دور الحليف القوي والمدافع عن الديمقراطية وحريات الشعوب. لكنها في المقابل أظهرت عبر التاريخ نزعة للتخلي عن حلفائها في أوقات حرجة، ما جعل الكثيرين يشككون في صدق التزاماتها. ففي أعقاب الحرب الأوكرانية-الروسية التي اندلعت في فبراير 2022، يجد العالم نفسه أمام مشهد درامي مألوف: الولايات المتحدة، التي كانت الداعم الرئيسي لكييف، تتراجع تدريجيًا عن التزاماتها، مما يضع أوكرانيا في موقف هش. هذا ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح “متلازمة الانسحاب الأمريكي”، الذي يبدو أكثر ملاءمة من أي وقت مضى لوصف هذا الوضع، خاصة مع إدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب، التي تتبنى سياسة “إعادة التوازن”، مطالبة الأوروبيين بتحمّل نصيب أكبر من العبء.
لا يمكن إنكار أن للولايات المتحدة تاريخًا حافلًا بالتخلي عن حلفائها في لحظات حاسمة، والأمثلة على ذلك كثيرة وتشمل جميع أنحاء العالم. ففي فيتنام، دعمت واشنطن حكومة الجنوب لعقود في حربها ضد الشيوعيين، لكنها انسحبت في النهاية عام 1973، تاركة البلاد تواجه انهيارًا شاملًا. وفي العراق، قدمت الولايات المتحدة وعودًا للأكراد بدعم طموحاتهم، لكنها تخلت عنهم في مناسبات عدة، أبرزها عام 1991، عندما دعوا إلى الانتفاضة ضد صدام حسين ليجدوا أنفسهم بلا دعم عسكري. وفي أفغانستان، كانت نهاية التدخل الأمريكي عام 2021 واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية، حيث انسحبت القوات الأمريكية بشكل مفاجئ، تاركة الحكومة الأفغانية وحلفاءها في حالة من الفوضى العارمة أمام زحف حركة طالبان، والمشاهد المؤلمة التي رآها العالم من سقوط كابول كشفت عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الحلفاء عندما يعتمدون بشكل مفرط على دعم الولايات المتحدة.
في 28 فبراير 2025، شهد العالم حلقة جديدة من الخذلان الأمريكي، عندما تحوّل اجتماع في البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى مواجهة ساخنة، سلطت الضوء على هشاشة التحالف الأمريكي-الأوكراني. كان الاجتماع يُفترض أن يشهد توقيع اتفاق اقتصادي كبير لاستغلال الموارد المعدنية في أوكرانيا كجزء من جهود التعافي بعد الحرب، لكن الأمور سرعان ما خرجت عن السيطرة عندما طالب ترامب زيلينسكي بتقديم تنازلات للروس في مفاوضات السلام، حيث أكد ترامب أن “التنازلات جزء لا يتجزأ من أي اتفاق سلام”، مضيفًا بلهجة تهديدية: “إما أن تصنعوا اتفاقًا أو سننسحب، وإذا انسحبنا، ستكون العواقب وخيمة”.
زيلينسكي، الذي حاول إقناع ترامب بضرورة الحفاظ على موقف صارم ضد روسيا، رفض الفكرة بشدة، مشيرًا إلى الجرائم التي ارتكبها الجيش الروسي خلال الغزو، بما في ذلك ترحيل الأطفال وتدمير المدن الأوكرانية. لكنه لم يجد آذانًا صاغية، حيث استمر ترامب في الضغط عليه بحدة، مطالبًا إياه بأن يكون “أكثر امتنانًا” للدعم الأمريكي.
ما حدث بين ترامب وزيلينسكي يطرح تساؤلات حول طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية: هل هي خيانة فعلية، أم أنها تعكس واقع السياسة الدولية التي تُبنى على المصالح بدلًا من المبادئ؟ الإجابة تكمن في تاريخ السياسة الأمريكية نفسها، فالولايات المتحدة لا تنظر إلى التحالفات باعتبارها التزامًا دائمًا، بل كأدوات لتحقيق أهداف استراتيجية مؤقتة، ما أن ينتهي الدور الذي يلعبه الحليف، حتى يتم التخلي عنه لصالح ترتيبات جديدة تخدم المصالح الأمريكية.
الخلاف العلني بين واشنطن وكييف أرسل موجات من الصدمة إلى أوروبا والعالم. فزعماء أوروبيون مثل إيمانويل ماكرون وبيدرو سانشيز عبّروا عن دعمهم لزيلينسكي، بينما أعربت بولندا عن تضامنها الكامل مع أوكرانيا. أما في الداخل الأمريكي، فقد انتقد الديمقراطيون موقف ترامب بشدة، واصفين إياه بأنه “انحياز مفضوح لبوتين”. لكن بالنسبة للعديد من الدول، كان هذا الموقف بمثابة تذكير مؤلم بضرورة إعادة تقييم علاقاتها مع الولايات المتحدة، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن الاعتماد على واشنطن كشريك على المدى البعيد، أم أن البراغماتية الأمريكية ستظل حجر عثرة أمام أي تحالف حقيقي؟
أبرز الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا المشهد هو أن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة دون بناء قدرات ذاتية أو تشكيل تحالفات إقليمية هو خيار محفوف بالمخاطر. فالحلفاء بحاجة إلى تبني استراتيجيات تعتمد على تنويع الشراكات الدولية، وتعزيز استقلاليتهم العسكرية والاقتصادية، والتعامل مع الولايات المتحدة كشريك مرحلي بدلًا من ضامن دائم.
في الأخير، الولايات المتحدة الأمريكية، كما أثبت التاريخ مرارًا، ليست حليفًا يمكن الاعتماد عليه في جميع الظروف، وسياساتها الخارجية تحكمها براغماتية باردة تقدّم المصالح الوطنية على المبادئ والشراكات. لذلك، على الدول، خاصة تلك التي تواجه تهديدات وجودية، أن تدرك أن التحالف مع واشنطن ليس حبل نجاة دائمًا، بل قد يكون أحيانًا عبئًا ثقيلًا إذا لم يتم التعامل معه بحذر وذكاء.