مدونات
للكاتب: عادل العوفي
كلما عاينت المشاهد المخزية القادمة من واشنطن هذه الأيام، والتي يتفنن بهلوان البيت الأبيض في تصديرها متعمدًا، كُشف حقيقة من يتحدثون باسمنا والمخول لهم رسم مستقبلنا والمؤتمنين على حياتنا. تعود بي الذاكرة لا إراديًا إلى تفاصيل التقطتها بين كتب التاريخ، وبالأخص لفترة معينة توثق التشرذم العربي، حيث كان “كسرى أبرويز” مستبدًا بالجزيرة العربية. كان المناذرة في العراق موالين لكسرى الفرس، والغساسنة في الشام موالين للروم. وكانت الجزيرة العربية آنذاك عبارة عن قبائل متناحرة بينها، تنهشها الثارات، وما إن تهدأ موقعة حتى تتجدد أخرى، فيتناحر الأشقاء تحت مسميات واهية وتافهة.
يمكننا اليوم أن نرى في مبنى البيت الأبيض إسقاطًا مقنعًا وقويًا لمدائن كسرى بالأمس، حيث يتدافع زعماء القبائل العربية لتقديم فروض الطاعة والولاء، متسابقين لكسب فتات الود والرضا لدى سيد الأكاسرة، ولو على حساب رابطة الدم والأخوة. إلا أنه، ورغم قتامة المشهد وسوداويته الحالكة، بزغ فجر الوحدة ليبدأ فصل جديد من أهم أيام العرب في تاريخهم، والمعروف باسم “ذي قار”، والتي تقع اليوم في محافظة الناصرية بالعراق.
أصل الحكاية ومربط الفرس
كانت مجالس كسرى تضم شخصيات عربية تتنافس في خيانة قومها وأهلها تحت شعارات براقة خادعة، كما هو الحال اليوم. وفي أحد اللقاءات، ذكر كسرى أبرويز الجمال العربي، فالتقط أحد الجالسين الإشارة واعتبرها فرصة سانحة للانتقام من ملك الحيرة، المعين من قبل الأكاسرة، وهو النعمان بن المنذر، لأنه غدر بأبيه وقتله. كان هذا الرجل العربي يُدعى “زيد بن عدي”، فأخبر كسرى بأن عائلة النعمان تضم عشرين امرأة من بناته وأقاربه، يجسدن الجمال العربي، ونصحه بإرسال وفد لطلبهن لأبنائه، مؤكدًا أن ملك الحيرة ليس سوى ممثل خاص لحكم سيده كسرى، وعليه تنفيذ أوامره دون قيد أو شرط.
برع زيد في وصف بنات النعمان، وبالأخص ابنته الكبرى، التي كان يضرب بحسنها المثل في بلاد العرب حينها، وتدعى “هند”، وكانت شاعرة لا يشق لها غبار. اختار كسرى زيدًا مع رسول آخر ضمن وفد رسمي لتنفيذ المهمة والتوجه إلى الحيرة ومقابلة ملكها. حاول النعمان بن المنذر كتم غضبه، لكنه رد برفض مهذب قائلًا: “أما في نساء فارس ما يكفيه؟“. هنا، استغل زيد المناسبة مجددًا ليوغر صدر كسرى ويحرضه على النيل منه، مدعيًا أنه استهزأ به وبطلبه، ورفض رفضًا قاطعًا ما يريده كسرى الفرس.
بنات النعمان وكرامة العرب على المحك
كان رد ملك الحيرة المستفز للفرس استكمالًا لتراكمات أخرى سابقة، ما جعل حاكم المدائن ينظر إليه بعيون مريبة، وكان ينتظر الفرصة السانحة لتأديبه حسب مفرداته. لذلك، طلب منه الحضور فورًا للقائه، فأدرك النعمان أنه ميت لا محالة، فجمع أسلحته وودائعه وأهله قاصدًا جبل طيء، راجيًا إيواء أهله، لكنهم ردوا طلبه خوفًا من بطش الفرس. ثم عرج على قبائل العرب الأخرى، لكن الكل رفض استقباله، حتى وصل إلى بادية بني شيبان، حيث التقى سرا بسيدها الشيخ هانئ بن مسعود الشيباني، مستجيرًا به، فلم يتوانَ عن احتضانه رغم إدراكه للعواقب الوخيمة المترتبة على ذلك.
ترك النعمان ودائعه وأهله في ضيافة بني شيبان، وقرر السير نحو قدره، رافضًا كل محاولات ثنيه، بما فيها اللقاء الأخير الذي جمعه بزيد بن عدي، الذي تسبب في هلاكه. لكنه أبى إلا مقابلة كسرى في مدائنه، حيث زُج به في السجن فور دخوله. وتعددت الروايات حول كيفية موته، بين من قال إنه توفي بالطاعون، ورواية أخرى تفيد بأنه قتل دهسًا تحت أقدام الفيلة.
كلف كسرى الملك الجديد المعين للحيرة، ويدعى “إلياس بن قبيصة الطائي”، بمقابلة الشيخ هانئ لاسترداد ودائع النعمان، وحتى بناته وأهله، وإلا فالثمن سيكون مكلفًا جدًا، فهم مجرد قبيلة صغيرة لن تقوى على مواجهة جيوش الأكاسرة المتمرسين في الحروب. لكن المفاجأة الكبرى جاءت برفض بني شيبان طلب كسرى، مصرين على عدم تسليم من استجار بهم، والانتصار للقيم العربية وحفظ شرف بناتهم.
بطحاء ذي قار تحفظ كبرياء العرب المهدور
اعتادت قبائل بكر بن وائل أن تحط الرحال في بطحاء “ذي قار” في فترة القيظ، وسارت بالفعل بنو شيبان وأشقاؤهم نحو المنطقة المشهورة بمياهها العذبة. لكن هذه المرة، كانت الخطوة مختلفة كليًا، فهم مقبلون على مواجهة جيش لا قبل لهم به. حاول الشيخ هانئ مراسلة بعض القبائل الأخرى، واستنهاض هممهم، مؤكدًا أن كسرى لا يستهدف بني شيبان وحدهم، بل يستهدف كبرياء وكرامة كل عربي، وأن الأوان قد حان لإنهاء الخلافات والوقوف صفًا واحدًا لمواجهة الخطر المحدق بالجميع.
تولى حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي إعداد الجيش العربي وخطته، وهو فارس مشهود له بالشجاعة. وبدأت حواجز الخوف تنكسر، وسارت نحو قبائل بكر بن وائل العديد من المجموعات العربية الأخرى التي لبت النداء. حتى أن هناك وفودًا سرية وصلت، يطلب أصحابها الانخراط مع القبائل العربية حين تبدأ المعركة، إذ كانوا مجبرين على القتال تحت راية الفرس، واستغل حنظلة ذلك كجزء من خطة محكمة لاختراق جيش كسرى، الذي استقدم اثنين من أشهر قادته، وهما “الهامرز” و”جلابزين”.
موقعة ذي قار وواقعنا اليوم
بالأسلحة والدروع التي أخفاها النعمان بن المنذر، حاربت القبائل العربية وألحقت هزيمة نكراء بجيش كسرى أبرويز، وأنهت غطرسته، وتوحدت تحت راية واحدة، وسجلت بمداد الفخر أول انتصار عربي على الفرس. ويقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف موقعة ذي قار بقوله: “هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا“.
قد يتساءل البعض: ما مناسبة إعادة سرد هذه الوقائع في عصرنا الحالي؟ والجواب بسيط: كما أسلفت، فإن نقاط التشابه بين تلك المرحلة وما نحياه الآن لا تُعد ولا تحصى. لكن وسط أنقاض الخيانة والذل والعار في مدائن كسرى، انبعث فجر عربي جديد بمسميات مختلفة. وها هي مخططات بهلوان أمريكا وغطرسته في استهداف الأمة ومقدراتها لا تختلف إطلاقًا عن الشخصية التاريخية السالفة الذكر. لكننا في النهاية انتفضنا، ونفضنا عنا التشرذم، وانتصر الأحرار، وأجبروا أمة كاملة على الانخراط في معركة الحرية وقطع دابر الاستبداد والظلم.
اليوم، غزة وأهلها هم من يضطلعون بهذه المسؤولية الجسيمة، في انتشال الجميع من القاع نحو القمة، وقهر كل الأعداء ودحرهم إلى مزابل التاريخ. كما قال الكاتب السوري المبدع سعد الله ونوس: “نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ“.