سياسة
إذا أردنا أن نفهم ما يجري اليوم في غزة، فعلينا أن نفتح سجل التاريخ الاستعماري الأوروبي لأفريقيا، فالتاريخ ليس مجرد أحداث متفرقة، بل هو شبكة من الأنماط المكررة التي تتخذ أشكالًا جديدة في كل مرحلة. منذ أن وطأت أقدام الأوروبيين القارة الأفريقية، وحتى اللحظة التي تُدَكُّ فيها غزة بصواريخ الاحتلال الإسرائيلي، يمكننا أن نرى ذات المنطق الاستعماري يعمل، وإن اختلفت الأدوات والشعارات.
لم يبدأ الاستعمار الأوروبي لأفريقيا بالمدافع والبنادق، بل بدأ بخطاب فكري يشرعن الاحتلال، حيث جرى تصوير الأفارقة على أنهم شعوب غير متحضرة، غير قادرة على إدارة أراضيها، بل حتى غير مستحقة لها. نظرية “الأراضي الفارغة”، التي استخدمها الاستعمار البريطاني والفرنسي، اعتمدت على فكرة أن وجود السكان الأصليين لا يعني أنهم أصحاب السيادة، فالأرض وفق المنظور الأوروبي تحتاج إلى “تطوير” و”تمدين”، وهو ما لا يستطيع السكان الأصليون القيام به، وعليه، فإن من يملك الحق في هذه الأراضي هو المستعمر، الذي لديه القدرة على “إعمارها”.
وفي فلسطين، أو بالأحرى في غزة اليوم، هناك أيضًا قصة الأرض المحتلة و”الفراغ السكاني” المُفتَعل، ولا يختلف الأمر كثيرًا عن حال أفريقيا. فمنذ وعد بلفور (1917)، جرت محاولة لتصوير فلسطين على أنها أرض بلا شعب، رغم أن واقعها السكاني كان واضحًا تمامًا. هذا المنطق ذاته نراه اليوم في محاولات تهجير سكان غزة، سواء بالقصف المتواصل أو من خلال تصريحات تدعو إلى “إخلاء القطاع”. التصريحات الأخيرة لدونالد ترامب، التي طرح فيها فكرة شراء غزة وتحويلها إلى مشاريع عقارية، ليست مجرد تصريح عابر، بل امتداد للمنطق الاستعماري الذي ينزع عن السكان الأصليين شرعيتهم في أرضهم، تمامًا كما اعتُبر الأفارقة غير جديرين بأفريقيا.
كان الاستيطان الأوروبي في أفريقيا عملية مدروسة لإحلال المستعمرين محل السكان الأصليين عبر التهجير القسري والاستيلاء على الأراضي، كما حدث في جنوب أفريقيا، حيث فُرِض نظام الأبارتهايد، وفي ناميبيا، حيث ارتكب الألمان إبادة جماعية بحق شعبي الهيريرو والناما. أما في زيمبابوي (روديسيا سابقًا)، فقد تم طرد السكان الأصليين من أراضيهم لصالح المستوطنين البريطانيين، في حين شهدت كينيا استعمارًا قاسيًا أدى إلى ثورة الماو ماو ضد البريطانيين، الذين استخدموا معسكرات الاعتقال الجماعية. وفي الجزائر، صادرت فرنسا الأراضي لصالح الأوروبيين، وقمعت المقاومة بعنف، بينما استمر البرتغاليون في أنغولا وموزمبيق في حكم استيطاني دام أكثر من أربعة قرون. كل هذه النماذج تتقاطع مع ما يحدث في فلسطين اليوم.
فإسرائيل تقدم وجهًا آخر لنفس الاستراتيجية، لكن في سياق مختلف. اليوم، لا يقتصر الاستيطان على الضفة الغربية فحسب، بل يمتد التفكير الصهيوني إلى غزة، التي يُنظر إليها على أنها “مكان مثالي” لتوسيع المستوطنات. تصريحات مسؤولين إسرائيليين مثل بتسلئيل سموتريتش، الذي أعلن مؤخرًا مصادرة 24 ألف دونم في الضفة الغربية، تكشف استمرار مشروع الاستيطان على حساب الفلسطينيين. بل وأكثر من ذلك، لم يعد القادة الإسرائيليون يتحدثون عن صفقة ترامب كخيارٍ مطروح فحسب، بل كـ”الحل الأمثل” الذي لا مجال لرفضه. أما من يرفضه؟ فليتحمّل إذًا وجود الفلسطينيين على أرضهم! تارةً في السعودية، وأخرى في الأردن ومصر، وأحيانًا حتى في الصومال!
كان أحد الأساليب الاستعمارية في أفريقيا هو تدمير البُنى التحتية التي بناها السكان الأصليون، لإبقائهم في حالة تبعية دائمة. بريطانيا وفرنسا، أثناء استعمار أفريقيا، لم تبنيا سككًا حديدية ولا موانئ ولا مدارس لخدمة الأفارقة، بل لخدمة مشروعهما الاقتصادي. وعندما بدأت حركات التحرر، لجأت القوى الاستعمارية إلى سياسة الأرض المحروقة، حيث دُمّرت المدن والبُنى التحتية لضمان بقاء المستعمرات في حالة ضعف حتى بعد رحيل الاستعمار.
اليوم، تُطبَّق السياسة ذاتها في غزة، لكن بطريقة أشد وحشية. فإسرائيل لا تكتفي بالحصار، بل تلجأ إلى القصف المستمر للبُنى التحتية، من المستشفيات والمدارس إلى محطات الكهرباء. هذه ليست عمليات عسكرية بقدر ما هي استراتيجية ممنهجة لإبقاء القطاع في حالة دمار دائم، مما يجعل أي مشروع وطني فلسطيني مستحيلًا. لا تختلف هذه السياسة عن تلك التي استخدمتها القوى الاستعمارية في أفريقيا لضمان عدم قدرة الدول المستعمَرة على النهوض بعد استقلالها. لكن ما يتكشف يومًا بعد يوم في حالة غزة، ولاحقًا في الضفة الغربية، هو أن الغاية من هذا الدمار ليست فقط شلّ قدرة الفلسطينيين على النهوض مجددًا، بل إحداث خراب يجعل العودة مستحيلة أو شبه متعذرة. وعندها، تمامًا كما اقترح ترامب، يأتي الحديث عن “إعادة الإعمار”، لكن ليس لأهلها، بل لتسليمها للمستعمرين وحلفائهم، كأرضٍ مطهّرة من أصحابها الأصليين.
في أفريقيا، كان الاستعمار يستند إلى قوة عسكرية ساحقة لضمان هيمنته. فرنسا استخدمت جيشها في الجزائر لقتل مئات الآلاف، وبريطانيا فعلت الشيء نفسه في كينيا أثناء قمع ثورة الماو ماو. القاسم المشترك في كل هذه الجرائم كان التبرير: فالمستعمر يرى دائمًا أنه لا يتعامل مع شعب له حقوق، بل مع “بشر أدنى” يجب القضاء عليهم.
اليوم، تمارس إسرائيل النهج ذاته ضد غزة، لكنها تمتلك ترسانة أكثر تطورًا. عمليات القصف، التي تدّعي إسرائيل أنها “دفاعية”، هي في الواقع جزء من استراتيجية مدروسة، والقتل الجماعي للمدنيين، الذي تُبرره إسرائيل دائمًا بوجود “إرهابيين” بين السكان، لا يختلف عن ممارسات فرنسا، أو بريطانيا في كينيا، حينما كان كل أفريقي مقاتلًا محتملاً، وكل فلسطيني اليوم هو “تهديد أمني” محتمل.
التناقض في سياسات ترامب واليمين الشعبوي المتطرف في الكيان الإسرائيلي يكشف عن منطق استعماري فجّ لم يتغير. فمن جهة، يعتبر ترامب أنّ من “الطبيعي” تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وحرمانهم من حق العودة، ولا يرى في ذلك جريمة ضد الإنسانية، بل يسوّقها على أنها “فرصة” للفلسطينيين للعيش في “أماكن أكثر أمانًا وجمالًا”. في الوقت ذاته، يقود ترامب حملة شرسة ضد جنوب أفريقيا لحماية أراضي تحت سيطرة البيض المستوطنين.
في المحصلة، ما يحدث اليوم في غزة هو إعادة إنتاج لمنظومة استعمارية عميقة الجذور. كما سعت القوى الاستعمارية الأوروبية إلى القضاء على الهوية الأفريقية، تمضي إسرائيل على النهج ذاته، محاولةً محو الهوية الفلسطينية من خلال القتل، التهجير، والاستيطان. لكن، كما خرج المستعمر الأوروبي من أفريقيا تحت ضربات المقاومة، فإن مشروع الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين لن يكون استثناءً.