سياسة

المستأجرة والثكلى في مواجهة التهجير

فبراير 10, 2025

المستأجرة والثكلى في مواجهة التهجير

تخيّلوا معي ما الذي أمكن حدوثه لو أعلن الشيخ سالم الهرش في مؤتمر “الحسنة” أكتوبر١٩٦٨م، الدعوة باسم قبائل سيناء التي كان ممثلاً عنها، لتدويل قضيّة شبه جزيرة سيناء وإعلان استقلالها؟ وهي الخطّة التي رتّبها موشي ديان مع الشبخ سالم وعدد من شيوخ القبائل بضوء أخضر أمريكاني، لكنّ أهل سيناء نسفوها تمامًا أمام أعين العالم وأعلنوا أن سيناء قطعة من أرض مصر وقرارها بيد مصر ولا يملك أهلها التفريط في حبّة رمل منها.

ماذا لو كان العرجاني في هذا الموقف، وعُرِضَ عليه ما عُرض على سالم الهرش؟ سؤال يشغلني كمحرّك في النظر لأثر ملء ما تم تفريغه قسرًا من سيناء، بدعوى الحرب على الإرهاب (المفارقة أن العرجاني وصحبه صنّفتهم الدولة كإرهابيين في وقت سابق قبل أن تعود لاستخدامهم مؤخرًا). هل يظنّ أحد، بمن في ذلك الأجهزة التي تستخدمه أنه يمتلك عقيدة كتلك التي حرّكت الهرش وبقيّة المشايخ في مؤتمر الحسنة؟ أم أن حساب المصلحة والمكاسب كان سيحرّكه -غالبًا- باتجاه إعلانه شيخ مشايخ سيناء بعد استقلالها عن مصر، وكيلاً عن العدو كعبّاس وسلطة أوسلو في الضفّة مثلاً؟


ليست النائحة المستأجرة كالثكلى، والاعتمادُ على الميليشيا لسدّ فراغ مصطنع -بجريمة- مصيره معروفٌ في عشرات التجارب البشريّة، ليس آخرها الدعم السريع جنوبًا ولا فاغنر في سوريا وأوكرانيا والسودان وليبيا وغيرها، لكن حتى تاريخ استخدام السلطة في مصر لميليشيات مسلّحة لمواجهة قوى أخرى-أشد إزعاجًا- في صراعات الداخل كان ختامها مأساويًّا على السلطة ومن ثم على البلد بكلّ من فيه. بعد الانقلاب والهجمات التي تبعته في سيناء تحديدًا، دعت السلطة في وجهها العسكريّ الرسميّ قبائل سيناء إلى اصطفاف في المواجهة، ودفعت القبائل العشرات من أبنائها ثمنًا لهذا الاصطفاف شهداء ومصابين، في صفوف الاشتباك الأولى كتفًا بكتف مع جنود وضبّاط الجيش أو حتى قبلهم (باعتبارهم أدلّة وقصصاصي أثر أو حتى حوائط صدّ تنفجر بهم الألغام المزروعة في طرق التمشيط والاقتحام)، في محاولة مشوّهة لاستعادة “منظمة سيناء العربيّة” والتي كان فيها أهالي سيناء قلب العمل الفدائي ضد الاحتلال الصهيوني بعد هزيمة ٦٧.


كان المطلوب تجنيدًا لشباب القبائل من ناحية، وتهجيرًا لسكّان رفح وجزء من الشيخ زويّد إلى الغرب، وهو ما حدث مع المئات على الأقل في الأولى ونحو مائة ألف في الثانية بحسب تقارير حقوقيّة، جاء حصادها في الصورتين المزيد من الثارات المركّبة مع أهالي سيناء وقبائلها بعد قسمها لنصفين: ميليشيا رسميّة تمتلك سطوة الدولة وميزاتها ومواكبها وربّما سلاحها بقيادة العرجاني، وبقية القبائل والعوائل في موضعٍ يشبه العدو، يواجَه بالقوة والعنف والتنكيل، يعتقل مشايخه وكباره ورموزه، وتفضُّ تجمعاته بالقوة المسلحة، ويتم إقصاؤه تمامًا عن الواقع السيناوي تهجيرًا أو سجنًا.


ولو رجعنا لأي قيادة عسكريّة مصريّة شاركت في أيّ من حروبنا مع العدو، لحكى لنا آلاف المشاهد البطوليّة لأهالي سيناء في المواجهة دفاعًا عن حدود البلد ووجوده، وفي أوقات غير قليلة كان وجودهم شبه وحيد في المواجهة، مما جعل “المقاومة الشعبيّة” اسمًا رسميًّا في الكتب والمحاضرات الأكاديمية والعسكريّة لوصف تاريخ ممتدّ من النضال والمقاومة، ولحكى لنا كذلك عن جرائم قادة الميليشيا الجديدة وسعيهم حصرًا وراء المصلحة والمكسب وتسليك مسارات المخدرات والسلاح وغيرها من التجارات المجرّمة-بعيدًا عن أسبابها التي تتحمّلها الدولة وسياساتها تجاه سيناء وأهلها منذ عقود .


تفريغ سيناء من أهلها واعتقال شرفاء مشايخ القبائل لا يخدم إلا العدو، وهو رسالة عمليّة أن الطريق مفتوح أمام مخططاتهم، وإعادة الناس إلى قراهم وبيوتهم وأراضيهم رسالة معاكسة تحسم المسألة، وتملأ الكل بيقين وجود درع حامي على الحدود في أي مواجهة، أو حتى ما قبل حدوث مواجهة، تمامًا كما ثبت تاريخيًّا. أما الاعتماد على من تم شراؤه وتجنيده، فقد يشتريه غيرك غدًا ويفاجئك بوجوده في المعسكر المقابل، يرفع سلاحه -الذي منحته إياه- في وجه الجيش تمامًا كما رفعه بأمر منك في وجه الناس؛ فليست النائحة المستأجرة كالثكلى، وليس المواطن كالمستوطن.

 

شارك

مقالات ذات صلة