مدونات
للكاتب: أحمد نزال السليمان
يبدو أن السوريين لم يكونوا وحدهم مَن حُرموا من النوم في ليلة السابع من ديسمبر 2024؛ فقد امتدَّ السَّهرُ إلى أغلب البلدان العربية التي ظلَّتْ تراقب بقلقٍ تطويقَ قوات المعارضة للعاصمة دمشق. كان الجميعُ على أهبة الاستعداد لالتقاط اللحظة التاريخية التي يُعلن فيها سقوطُ نظامٍ يُوصَف بأنه الأكثر ديكتاتوريةً وشراسةً في التاريخ الحديث، ليكونوا شُهودًا على حدثٍ يُعيد الأملَ للشعوب العربية في إمكانية التغيير. وهذا ما يُفسِّر موجاتِ الفرح التي عمَّتْ وجوهَ العرب آنذاك.
مع الظهور المتكرر لرموز الثورة السورية، سواء العسكريين أو السياسيين، على الشاشات، اعتاد مذيعو البرامج على طرح سؤالٍ نموذجي “ما الأحداث التي أثَّرت في تكوين شخصيتكم؟” الغريب أن إجاباتهم كانت تستحضر دائمًا أحداثًا عربيةً (كفلسطين والعراق) أكثرَ من السورية. حتى حين وُجِّه السؤالُ إلى السيد أحمد الشرع (رئيس المرحلة الانتقالية)، أجاب بأن الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000) هي مصدر إلهامه. وهذا يُشير إلى أن نجاحَ التجربة السورية قد يُحدث تحوُّلًا نفسيًا وسياسيًا في الوعي الجمعي العربي، ويُثبت أن سرديات الثورة والحرية قادرةٌ على الانتصار. فمنذ اليوم الأول لانتصار الثورة، كتب أستاذٌ مصري في العلوم السياسية: “مَن يشكُّ في إمكانية التغيير، فليُولِ وجهَه شطرَ الشام”.
أما عن المُستفيدين من هذا الانتصار، فيأتي الشعبُ السوري في المقدمة: أبناؤه الذين روَّوا أرضَهم بالدماء، ومعتقلوه الذين تحمَّلوا التعذيبَ والتغييبَ، وأمهاتُ الشهداء اللواتي صمدنَ 14 عامًا تحت الخيام دون تنازل. وبعد أن استفادت القوى الثورية، يبقى التحدي الأكبر هو مستقبل الربيع العربي. اليوم، يُعلَّق جزءٌ كبير من مستقبل الربيع العربي على قرارات السوريين. فتحقيقُ “الدولة” التي يحلمون بها قد يُعيد إحياءَ الربيع العربي، بشرطِ تجنُّب تكرار أخطاء التجربتين المصرية والتونسية، اللتين فشلتا في تحقيق انتقالٍ ديمقراطي بسبب تدخُّل أنظمة الثورة المضادة.
هدفُ هذه الأنظمة واضح: منعُ الشعوب من تقرير مصيرها، عبر تشويه ثورات الربيع العربي وربطها بـ “الإسلام السياسي” لتحويلها إلى فزاعةٍ تُبرر استمرارَ الاستبداد. منذ قرنٍ من الزمن، لم تشارك الشعوبُ العربية في بناء دولها. فغيابُ “العقد الاجتماعي” جعل الحكومات تتسلط بأدواتٍ غير شرعية، وتخوض حربًا صفريةً ضد مجتمعاتها. وهذا يُفسر تحذيراتِ المراقبين من تكرار السيناريو التونسي-المصري في سوريا (وصول الإسلاميين ثم انقلابُ النظام القديم).
لكن يبدو أن هيئة تحرير الشام، التيار الإسلامي الذي وصل للحكم في سوريا مؤخرًا، لم تغفل عن مثل هذه الأمور، حيث أكدت مصادرُ أنه تم قبل سنتين عقدُ لقاءاتٍ بين قادة الهيئة وأشخاصٍ من دولٍ ترعى الثورة المضادة، وأشخاصٍ من دول لم تنجح فيها الثورات، لدراسة تجارب الربيع العربي. وهذا يُفسر تشدُّدَ الهيئة في القرار السياسي ورفضَها مشاركةَ هيئاتٍ وطنية قد تكون نوافذَ لفلول النظام القديم. رغم ذلك، يعتقد محللون أن هذا التشددَ مرحلةٌ مؤقتة، إذ يدرك أحمد الشرع أن بناءَ الدولة يتطلب شراكةَ القوى الديمقراطية كافةً، وتجنبَ انفراد تيارٍ واحدٍ بالسلطة (كما حدث في مصر).
ولعلَّ قراءةَ الحكومة السورية الجديدة للمشهد السياسي تُظهر ذكاءً لافتًا؛ فهي تحاول الخروجَ من الثنائية الإسلامي-العلماني إلى ثنائية الديمقراطي-الاستبدادي، لتجفيف منابع من يريد اختراقَها عبر صراعاتٍ مذهبية، كما حدث في العراق بعد 2003. كما أعلنت انفتاحَها على كل مكوّنات الشعب السوري لبناء دولة القانون، لا الدولة الدينية.
لكن نجاحَ النموذج السوري لا يعني بالضرورة قابليته للتكرار. فسوريا فريدةٌ بتنوعها العرقي (عرب، أكراد، أرمن…) والديني (مسلمون، مسيحيون، يزيديون…) والفكري (تياراتٌ إسلامية ويسارية متباينة). هذا التعقيدُ يَجعلُ مسارَها مختلفًا، لكن انتصارَ ثورتها يظلُّ شعلة أملٍ للعرب، خاصةً بعد الانعطافات والتغييرات التي قام بها السيد أحمد الشرع على مستوى الجماعة، من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام، ثم إلى هيئة تحرير الشام، وبعدها إلى تشكيل حكومة الإنقاذ، وصولًا إلى الحكم.
لقد أرسل هذا المسار رسالةً لحركات التحرر: عليها أن تُعيد تجديد نفسها، وتطوِّر أفكارها وسلوكها، وألّا تعوِّل على الحل العسكري وحده لتحقيق التغيير، بل تؤمن بأن الحلَّ السلمي الديمقراطي هو الطريق، لا المواجهةُ الدموية.