مدونات

العقوبات الدولية: أداة ضغط أم وسيلة ابتزاز؟ قراءة في مخاوف السوريين

فبراير 2, 2025

العقوبات الدولية: أداة ضغط أم وسيلة ابتزاز؟ قراءة في مخاوف السوريين

للكاتب: جميل العبدالله


فُرضت العقوبات الدولية على سوريا في بداية الأزمة كردّ فعل على جرائم نظام الأسد، التي شملت قصف المدنيين، وتدمير البنى التحتية، واعتقال عشرات الآلاف، وتهجير الملايين. آنذاك، قُدِّمت العقوبات كأداة لتحقيق العدالة الانتقالية، أو لدفع النظام إلى تغيير سياساته. لكن بعد سقوط النظام وبروز كيان سياسي جديد يحاول إدارة مرحلة ما بعد الصراع، تتحول هذه العقوبات إلى أداةٍ تعيق بناء الدولة، دون أن تكون موجهةً ضد “جرائم الماضي”، بل كوسيلة لفرض شروطٍ سياسية واقتصادية على الكيان الجديد.


عقوبات على النظام أم على الشعب؟

رغم أن الهدف المعلن للعقوبات كان معاقبة النظام السابق، إلا أن آثارها طالت الشعب السوري بشكل مباشر. فوفقاً لتقارير الأمم المتحدة، ساهمت العقوبات في تفاقم الأزمة الإنسانية، عبر شلّ القطاعات الحيوية مثل الصحة والزراعة، ورفع تكلفة الواردات الأساسية بسبب صعوبة التحويلات المالية. لكن السؤال الأهم اليوم: لماذا تستمر العقوبات بعد زوال النظام الذي فُرضت بسببه؟

الجواب يكمن في تحوُّل وظيفة العقوبات من “عقاب” إلى “ابتزاز”. فالدول التي تفرضها لم تعد تطلب محاسبة النظام السابق، بل تُلزم الدولة الجديدة بقائمة شروطٍ تخدم مصالحها، مثل:

  • تقييد التحالفات الإقليمية (مع إيران أو روسيا).
  • فتح قطاعات النفط والغاز أمام الشركات الأجنبية.
  • تغيير السياسات الاقتصادية لصالح اقتصاد السوق المفتوح.

هذا التحوّل يجعل العقوبات أشبه بـ”فخّ” يُحكم السيطرة على القرار الوطني، بدلاً من أن تكون أداةً لتحقيق العدالة.


الدولة الجديدة: ضحية العقوبات الممتدة

الخطاب الدولي يُصرّ على أن العقوبات موجّهة ضد “النظام وليس الشعب”، لكن الواقع يُثبت عكس ذلك. فالدولة الجديدة، التي تتحمل تبعات حربٍ دامت أكثر من عقد، تُعاقب على جرائم لم ترتكبها. والأمثلة عديدة:

  • القطاع المصرفي: تمنع العقوبات التعامل مع البنوك السورية، مما يعيق استيراد الأدوية والمعدات الطبية، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السابق.
  • إعادة الإعمار: تُقدَّر تكلفتها بمئات المليارات، لكن العقوبات تمنع استقطاب الاستثمارات أو الحصول على القروض الدولية، إلا عبر شروطٍ تمسّ السيادة، مثل منح شركات أجنبية حقوقاً استثمارية حصرية.
  • السياسة الخارجية: تُربط أي خطوة لرفع العقوبات بتغيير التحالفات الإقليمية، كشرطٍ غير معلن.

هذه الآليات تكرّس سوريا كدولةٍ ضعيفة، حتى لو تحققت الانتقالية السياسية، لأن العقوبات تُستخدم لـ”إدارة الأزمة” لا لحلها..


عقوبات دائمة أم ورقة ضغط؟

استمرار العقوبات دون مبررٍ قانوني أو أخلاقي يطرح تساؤلاتٍ حول نوايا الدول الفاعلة. ففي حين تُعلن هذه الدول دعمها للاستقرار في سوريا، فإن العقوبات تُعيق أي محاولة للنهوض الاقتصادي. وهذا التناقض يُظهر أن الهدف الحقيقي هو:

  1. تحجيم الدور الإقليمي لسوريا: عبر إبقائها دولةً فاشلة، لا تستطيع لعب دورٍ في محاور المقاومة أو التأثير في ملفات مثل فلسطين أو لبنان.
  2. إجبار الدولة الجديدة على الخضوع لشروط الاقتصاد العالمي: كخصخصة القطاع العام، أو ربط العملة السورية بالدولار، مما يُسهّل السيطرة الخارجية.
  3. إضعاف الشركاء الإقليميين لسوريا: مثل إيران، عبر شلّ الاقتصاد السوري الذي يعتمد على الدعم الإيراني في مجالات الطاقة والغذاء.

التجربة الأوروبية: تخفيفٌ هشّ

في أول شهر بعد سقوط نظام الأسد، قررت فرنسا والاتحاد الأوروبي تخفيف بعض العقوبات لمدة عام، مثل تلك المتعلقة بالمساعدات الإنسانية. لكن هذا التخفيف جاء مُحمّلاً بأجندات:

  • اختبار ولاء الحكومة الجديدة: من خلال رصد استجابتها لطلبات أوروبا، مثل تسهيل عمل منظماتها أو ترحيل اللاجئين.
  • تحسين الصورة الإعلامية: لإظهار أوروبا كمنقذٍ إنساني، بينما تبقى العقوبات الأقسى ساريةً المفعول.
  • استباق النفوذ الروسي: عبر محاولة كسر التحالف بين دمشق وموسكو، بوعودٍ اقتصادية وهمية.


السيناريو المرعب: عقوبات بلا نهاية

المخاوف السورية ليست من استمرار العقوبات اليوم، بل من تحوّلها إلى أداةٍ دائمة لـ”إدارة التدهور”. فبدلاً من الضغط لتحقيق انتقال ديمقراطي، تُستخدم العقوبات لـ:

  • تأبيد تفتيت سوريا إلى مناطق نفوذ.
  • تحويل الاقتصاد السوري إلى سوقٍ استهلاكية للمنتجات الأجنبية.
  • إجبار النخبة السياسية الجديدة على التنازل عن السيادة مقابل فتات المساعدات.

هذا السيناريو يُعيد إنتاج نفس أدوار القوى الاستعمارية التقليدية، لكن بآلياتٍ حديثة.


الخيار السوري: سيادة أم استسلام؟

الخروج من هذا المأزق يتطلب إعادة تعريف العلاقة مع العقوبات، عبر:

  1. ربط أي تفاوض حول العقوبات بإطار زمني واضح، وعدم تركها مفتوحةً كسيفٍ مسلط على الرقاب.
  2. بناء تحالفات إقليمية ودولية تدعم رفع العقوبات دون شروطٍ مجحفة، كالدول التي تعارض الهيمنة الأحادية للغرب.
  3. تفعيل القطاع الخاص المحلي وتشجيع الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحيوية، لتقليل الاعتماد على الخارج.
  4. كشف الابتزاز السياسي عبر حملات إعلامية وقانونية تُظهر كيف تُستخدم العقوبات كأداةٍ للهيمنة.

الدرس الأهم هو أن العقوبات، منذ البداية، لم تكن أداةً محايدة. فبعد زوال مبررها الأصلي (عقاب نظام الأسد)، تتحول إلى سلاحٍ لتحقيق ما فشلت الحرب في تحقيقه: إخضاع سوريا لإرادة القوى الكبرى.

شارك

مقالات ذات صلة