سياسة

إلى صاحب الظِّل الجليل..

فبراير 2, 2025

إلى صاحب الظِّل الجليل..

لماذا محمد الضيف علامة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني.. لماذا يجتاحنا كل هذا الحزن والشعور بفقدان الأب والسند؟ هل لأنه حركة تاريخنا وأنصع صفحاته؟ خيمتنا الكبرى التي نأوي إليها كلما أردنا؟ سيفنا الذي يرتعد منه الأعداء؟ أنبلنا وأصدقنا الذي عاش خفياً متخففاً من أحمال الدنيا وأوحالها ورحل بصمت وهدوء يشبهانه؟

أبو خالد الذي تربينا على ظلّه الجليل، وعشقنا قصص بطولاته وعبقريته ونجاته بعناية الله المرة تلو الأخرى من محاولات الاغتيال، وكان في كل مرة يخرج كالمارد من تحت الرماد ليُحييَ الله به الأمة بعد مواتها.. وهو ضيف الله على الدنيا٬ الذي جال فلسطين وبيوتها وبياراتها ومساجدها وحاراتها٬،لأن العيون الخائنة وفوهات البنادق وصواريخ “هيلفاير” كانت تطارده براً وبحراً وجواً لأكثر من ثلاثة عقود.


كم كنت وحدك، قليل الكلام كثير الأفعال، سائراً في دروب المستضعفين الأولين٬ زاهداً في دنياك عاملاً لأُخراك، وافر العطاء لأرضك وشعبك ولم تنتظر يوماً جزاءاً ولا شكوراً.. لم تبحث عن الأضواء٬ بل كنت صانع الأمجاد والقادة والشهداء.. تعرفك بنادق “الكارلو” ومسدّسات “ستار” محلّيّة الصنع٬ تعرفك عبوات العياش وأحزمته الاستشهادية، تعرفك قنابل عدنان الغول وبتّاره و”الياسين”٬ تعرفك صواريخ نضال فرحات وتيتو مسعود، تعرفك بيوت الضفة ومطارديها، تعرفك حارات غزة التي أحببتها وأحبتك وحفظتها عن ظهر قلب، وتعرفك تل أبيب جيداً حين زلزلتها بـ”الثأر المقدس” و”العهدة العشرية”.

على يد الضيف وحد سيفه٬ خرج شارون صاغراً من غزة التي أذاقت جيشه الموت الزؤام في “أيام الغضب”. وكما أعطى أبو خالد أوامره لخطف “نخشون فاكسمان” قبل عقود وظلّ حلم تحرير الأسرى يلازمه٬ فقد صنع لنا مجد “الوهم المتبدد” وأعاد الكرّة مع “جلعاد شاليط”٬ وبه كُسر قيد الأسرى في “وفاء الأحرار”.. كم كنت صادقاً وفياً لوعدك وعهدك لإخوانك الأسرى حتى بعد استشهادك يا أكرم الرجال.

 

يا شيخ الحروب وكهلها وفتاها، يا سيّد “الفرقان” و”حجارة السجيل” و”العصف المأكول” و”سيف القدس” و”طوفان الأقصى”، أحببت فلسطين حتى صرت ظلها الأبدي٬ وفي يوم الطوفان أعظم معاركنا وأشرفها٬ أنشدت وأنت تشير إلى القدس التي عرفتك درعها وسيفها: “كما أنتِ هنا٬ مزروعٌ أنا٬ ولِي في هذه الأرض آلافُ البُذُور، ومهما حاوَل الطُّغاةُ قلعَنَا ستُنبِتُ البُذُور٬ أنا هنا في أرضِي الحبيبة الكثيرةُ العطاء، ومثلُها عطاؤُنا نواصِلُ الطّريق٬ لا نوقفُ المَسير”.. ستنبت البذور التي زرعت نوراً وناراً يا سيّدي٬ حتماً ستنبت البذور ولن يقف هذا المسير.

وفي يوم انتصار المقاومة بمعركة “سيف القدس”، يذكرك الشهيد القائد إسماعيل هنية في الخطاب المشهود٬ بكلمات خالدة ومؤثرة، إذ يقول: “هذه الملايين لا تعرف محمد الضيف٬ لم تلتقيه٬ لم ترَ وجهه ولا ثغره الباسم، ولكن هتفت باسمه لأن الله رفع ذكره في العالمين”. نعم يا ضيفنا يا سيفنا٬ ضجت باسمك كل والميادين والشوارع والأزقة، من أقصى المعمورة إلى أدناها: “حط السيف قبال السيف.. إحنّا رجال محمد ضيف”.

عند استشهادك لم ينعاك الملوك والرؤساء والوزراء -وهذا مقام شرفٌ رفيع وعلامة إخلاص وقبول بديع- لكن أجيالاً من الأحرار عاشت في ظّلك وتربّت على صوتك وسيرتك وعظيم فعلك، وصدحت حناجرها لك بالبيعة في حمل اللواء والسير على ذات الدرب، ستتشبع بسيرتك العطرة٬ وتدرس عبقريتك الفذّة٬ وستذكرك فلسطين التي عشقتها يوم تحريرها، سيذكرك أبناء شعبك وأمتك وهم يقولون: كم نحن مدينون لك يا صاحب الظّل الجليل!

 

“أقول لقيادة العدو وجمهوره، أيها الغرباء عن أرضنا، لقد عجز آباؤكم المؤسسين وهم في قمة جبروتهم وانتمائهم لفكرة الصهيونية الخبيثة، عن استئصال شعبنا أو طمس هويتنا، فأنتم اليوم أعجز وأجبن من أن تنجحوا فيما فشلوا فيه”.. لن ننسى هذه الكلمات وصاحبها الذي كان أول من يقصف تل أبيب من داخل الأرض المحتلة، لن ننسى من تجرأ على الحُلم وقاد الطوفان ليحطم رأس الصهيونية ويكتب أولى فصول زوالها بدمه الطاهر.

يا سيّدي، أنت الرجل الأنبل الذي عرفنا، لا شيء يرثي سيرتك وعظيم فعلك٬ كل كلمات الرثاء أو المديح لن توفيك حقك، ولكن عند الله الجزاء الأوفى.. (جزاء من ربك عطاء حسابا).. لا شيء يرثيك يا صاحب الظل الجليل سوى المضي على دربك ومواصلة مسيرتك المباركة التي بدأت في سبيل الله قبل 40 عاماً، تلك المسيرة الملحميّة الطويلة٬ والله لا خاتمة تليق بها إلا الشهادة..

الآن يا سيّدي، استمع إلى بيان نعيك، وأردد في داخلي:

الموت كان أمنية..

والموت كان للجراح أغنية

واختار من صفوفنا

أحبَّ من رأت عيوننا

واختار من صفوفنا الكبار

واختار من صفوفنا الرجال صانعي النهار

واختار للذرى أحبةً كرام

تحيةً لهم سلام..

عرفت قصة الطريق كلَّها

الموت أول المطاف

لكنّ خضرة الطَّريق لا يصيبها الجفاف

قادمٌ.. قادمٌ.. وقادمٌ..

إشراقة مضيئة تجيء في الختام

تقدَّموا.. تقدَّموا.. 

فبعد لحظة من المسير

ينتهي الزحام..

لا بديل للخلود.. لا بديل للجنان

لا بديل غير ذلّةِ الرُّغام

لا بديل غير خدعة السَّراب

لا بديل غير وهدةِ الظَّلام

لا بديل للإقدام.. غير سحقةِ الأَقدام”.

شارك

مقالات ذات صلة