Blog
يتصدر الكابتن إبراهيم تراوري، ذو الـ36 عامًا، عناوين الأخبار في القارة الأفريقية، ليصبح رمزًا للجيل الجديد الرافض للخضوع للإمبريالية الغربية. آخر ظهور لافت له كان خلال تنصيب الرئيس الغاني الجديد، جون دراماني ماهاما، حيث خطف الأضواء. كما شهدت زيارته لجمهورية النيجر استقبالًا شعبيًا استثنائيًا، حيث هتف الشباب باسمه على امتداد طريق طويل من المطار إلى القصر الرئاسي. أما خطابه في القمة الأفريقية الروسية، فقد وُصف عالميًا بأنه خطاب قطع مع الماضي الاستعماري، وفتح الباب لنهج جديد يمثل تطلعات جيله. حتى أن الصحافة الروسية أطلقت عليه لقب “نجم القمة”.
وفي غضون سنتين من حكمه، وتحت حماية “الجيش التطوعي من الشباب” الذي كان يتناوب على حراسة قصر الرئاسة من تلقاء نفسه، ووسط سلسلة من 10 محاولة انقلابية في أقل من عامين، بمعدل محاولة انقلابية كل شهرين، أصبح إبراهيم تراوري رمزًا للثبات والصمود في بوركينا فاسو وفي عموم أفريقيا. لكن هذا الزعيم الشاب، الذي ينظر إليه أنصاره كـ”منقذ” للبلاد وبالامتداد منطقة الساحل، فيما يراه منتقدوه “مستبدًا مصابًا بجنون العظمة”، يظل شخصية مثيرة للجدل ولغزًا، بل محور اهتمام القارة الأفريقية والعالم.
وكما هو معلوم، فقد قاد تراوري انقلابًا على المقدم بول هنري سانداوجو داميبا في يناير 2022، مستغلًا استياء الضباط الشباب من القيادات العليا. ومنذ ذلك الحين، يقود تراوري عملية الانتقال في بوركينا فاسو، وسط مقارنات عديدة بينه وبين الزعيم الأفريقي الراحل توماس سانكارا، الذي لا يزال رمزًا في الذاكرة الجماعية الأفريقية. فمثل سانكارا، يرتدى تراوري القبعة الحمراء ووصل إلى السلطة في سن الرابعة والثلاثين عبر انقلاب عسكري تماما كسانكارا، حاملًا طموحات لتحويل بوركينا فاسو نحو مسار جديد من النهضة والسيادة.
لكن من هو تراوري؟ عسكري مثقف من خلفية مدنية
على عكس العديد من القادة العسكريين في بوركينا فاسو، جاء إبراهيم تراوري من خلفية مدنية. وُلد في منطقة بوندوكوي بمقاطعة موهون، وأظهر تفوقًا أكاديميًا منذ صغره، حيث حصل على شهادة البكالوريا بامتياز في عام 2007. التحق بجامعة جوزيف كي زيربو في واغادوغو لدراسة الجيولوجيا، وكان الأول على دفعته. إلا أن مسيرته أخذت منعطفًا غير متوقع عندما قرر الانضمام إلى الجيش عوضًا عن استكمال دراسته الأكاديمية. وفي عام 2010، التحق بأكاديمية جورج ناموانو العسكرية في بو، التي تُخرّج نخبة القوات المسلحة، وبدأ رحلة عسكرية بارزة.
منذ تخرجه في عام 2012، انضم الملازم الثاني تراوري إلى فوج المدفعية في كايا، وترقى بسرعة إلى ملازم في عام 2014، ثم نقيب في عام 2020. تلقى تدريبًا متخصصًا في المغرب، حيث حضر دورات متقدمة في المدفعية، وشارك في عدة عمليات ميدانية حاسمة، أبرزها في منطقة الحدود الثلاثية (بوركينا فاسو، مالي، النيجر) ضد الجماعات الإرهابية.
برز دوره بشكل خاص خلال عملية “أوتابوانو” في عام 2019 في المنطقة الشرقية للبلاد، حيث اكتسب سمعة قائد ميداني لا يهاب المخاطر. ومع تفشي الفساد في القيادة العليا واختلاس ميزانية الدفاع، بينما كانت القوات الميدانية تعاني نقص الموارد، قرر تراوري أن الوقت قد حان لتغيير المعادلة.
وفي عام 2022 قاد تراوري انقلابًا لإنهاء حالة الفوضى والعجز عن مواجهة الجماعات الإرهابية. رسالته كانت واضحة: إذا كان الخوف يسيطر على المدنيين بسبب الإرهاب، فإنه يجب أن ينتقل إلى صفوف الإرهابيين. واليوم، يسعى تراوري إلى تحقيق ما بدا مستحيلًا في الماضي: تحويل بوركينا فاسو إلى نموذج للاستقلال والسيادة، بينما ينظر إليه الملايين على أنه الزعيم الجديد الذي قد يحقق أحلامهم. وهنا سنركز على إصلاحات ثلاثة أحدثت نقلة نوعية في هذا البلد بغرب أفريقيا.
من قلب المناطق الزراعية في بوندوكوي، غرب بوركينا فاسو، وُلد إبراهيم تراوري، ذلك القائد الذي يعي تمامًا أهمية الزراعة كحجر زاوية لتحقيق السيادة الاقتصادية والقضاء على الفقر في القارة الأفريقية. هذا المبدأ الذي سار عليه تراوري يُعيد إلى الأذهان إرث سلفه الأسطوري توماس سانكارا، الذي لطالما أكد على أن الغذاء هو مفتاح الحرية والاستقلال.
وهكذا في خطابه السنوي لعام 2023، الذي استمر لأكثر من ساعة ونصف، كشف تراوري عن مشروعه الثوري للزراعة، حيث كرر مقولات سلفه سانكارا بأن “من يطعمك يسيطر عليك”، مشددًا على ضرورة التحرر من التبعية الغذائية. هذه الرؤية تم ترجمتها إلى اتفاقية تاريخية مع روسيا، وُقعت في سان بطرسبرغ خلال قمة يوليو 2023. الاتفاقية لم تكن مجرد شراكة تقليدية، بل تضمنت تزويد بوركينا فاسو بمحطات طاقة نووية مصغرة ستستخدم في إنتاج الأسمدة، تطوير بذور الحبوب، وتحسين تقنيات الزراعة.
روسيا، التي تُصنف من بين أكبر الدول المصدرة للطاقة واليورانيوم عالميًا، قدمت نموذجًا يوضح كيف يمكن للطاقة النووية الرخيصة أن تُحدث تحولًا اقتصاديًا شاملًا. وإذا نجحت بوركينا فاسو في تحقيق أهدافها، فإنها ستكون أول دولة في غرب أفريقيا تُنتج الكهرباء عبر محطات نووية، مما سيخفض تكلفة الكهرباء بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بجيرانها، ويُهيئ الأرضية لنهضة زراعية وصناعية غير مسبوقة.
وبالتوازي مع المشروع النووي، أطلق تراوري سلسلة من المبادرات لدعم المزارعين. تضمنت هذه المبادرات توزيع 400 جرار، و953 دراجة نارية، و710 مضخات آلية، و68 ألف طن من الأسمدة، بالإضافة إلى توفير 10 آلاف طن من أغذية الأسماك ومئات الآلاف من المنتجات الزراعية الأخرى حسب وزارة الزراعة في البلاد.
وفي خطوة أخرى تعكس رؤيته الطموحة للاكتفاء الذاتي والتنمية الاقتصادية، أطلق الرئيس إبراهيم تراوري مشروعًا فريدًا في أغسطس 2024، تمثل في إنشاء منشأة لمعالجة الطماطم بقيمة 8 ملايين دولار في العاصمة الإدارية الثانية بوبو ديولاسو. يُعد هذا المشروع الأول من نوعه في تاريخ بوركينا فاسو، ويهدف إلى تحويل قطاع الزراعة إلى ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي، وخاصة لمعالجة مشكلة ما بعد الحصاد.
فبوركينا فاسو، التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة في إنتاج الحبوب والمحاصيل النقدية والجذور والدرنات والفواكه والخضروات، تواجه تحديات حادة تتعلق بالخسائر بعد الحصاد. وتشير التقديرات إلى أن 30% من محصول الطماطم في البلاد يُهدر بسبب نقص مرافق التخزين والمعالجة. هذه الخسائر لا تؤثر فقط على دخل المزارعين، بل تزيد أيضًا من الاعتماد على استيراد منتجات الطماطم، مما يرهق الاقتصاد الوطني.
لمواجهة هذا الواقع، بادر تراوري إلى بناء مصنع معالجة حديث، يعمل على تحويل الطماطم المحلية إلى معجون وهريس وصلصات. يهدف المشروع إلى تقليل الفاقد من المحاصيل، وخفض الاعتماد على المنتجات المستوردة، وتعزيز قدرات المعالجة المحلية، بما يفتح آفاقًا جديدة أمام المزارعين ويزيد من القيمة المضافة للقطاع الزراعي.
وقد لاقى المشروع الأول إشادة واسعة من المزارعين والمهتمين بقطاع الزراعة، مما حفز القيادة على إطلاق مشروع استثماري ثانٍ في نفس المجال بقيمة 7.6 مليون دولار.
هذه الخطوات أثمرت بشكل فوري، حيث ارتفعت نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 18% إلى 31% خلال عامين فقط، وفقًا لتقارير البنك الدولي. ورغم أن 80% من سكان بوركينا فاسو يعملون في الزراعة، إلا أن هذا القطاع لم يكن مستغلًا بشكل كافٍ لتحقيق الأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية. اليوم، يعمل تراوري على رفع نسبة مساهمة الزراعة إلى أكثر من 50%، ما يُعزز قدرات البلاد على القضاء على المجاعة وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
إن إصرار تراوري على إحداث ثورة زراعية يثبت أن النهضة الحقيقية تبدأ من الأرض، ومن تمكين المزارعين، واستغلال الموارد الطبيعية بكفاءة. بوركينا فاسو، تحت قيادة تراوري، تتحرك بثبات نحو تحقيق نموذج جديد للتنمية الاقتصادية المستدامة.
في خطوة تعد سابقة في تاريخ البلاد، علّقت بوركينا فاسو تصدير الذهب في فبراير 2024، مرفقة بإلغاء اتفاقيات استثمارية وتأميم عدة مناجم. هذه القرارات جاءت ضمن رؤية تهدف إلى تعزيز السيطرة الوطنية على الثروات الطبيعية.
بدايةً شهد قطاع التعدين افتتاح منجم ذهب فائق الحداثة في عام 2023، مع وقف تصدير الذهب الخام إلى أوروبا. ومع إطلاق أول مصفاة للذهب في البلاد، استحوذت بوركينا فاسو على منجمي بونجو وواجنيون من شركات أجنبية، لتسجل نقطة تحول في إدارة الموارد الوطنية. وفي مجال تسوية النزاعات الاقتصادية، نجحت الحكومة في إنهاء خلاف قانوني حول منجمين للذهب مع شركة كندية بمبلغ 80 مليون دولار فقط، بعد أن كانت الشركات الأجنبية تطالب بـ 300 مليون دولار.
وكانت النتائج كانت مبهرة بعد عامين، بنهاية عام 2024، بلغ إنتاج الذهب 93 طنًا مقارنة بـ 23 طنًا فقط في عام 2023. أما مصنع التكرير الجديد، فيُتوقع أن ينتج 150 طنًا سنويًا بنسبة نقاء 99.99%، ما يعادل 400 كجم يوميًا، وهو إنجاز يعزز مكانة بوركينا فاسو كواحدة من أبرز الدول المنتجة للذهب في أفريقيا.
لم تقتصر إنجازات تراوري على قطاع الذهب، بل شملت قطاعات حيوية أخرى. فتم تأسيس أول مركز وطني لدعم ومعالجة القطن الحرفي، إلى جانب إطلاق بنك البريد برأسمال قدره 25.1 مليون دولار، وإنشاء بنك ودائع في الخزانة. وفي المجال الصناعي، تم إنشاء مصنعين لتجهيز الطماطم وإطلاق مصنع قطن ثانٍ، إلى جانب مصنع لتصنيع الملابس العسكرية.
عطفاً على ما سبق، وعلى الصعيد الاجتماعي، عاد أكثر من مليون نازح إلى موطنهم، وتطورت مشاريع مجتمعية لتعزيز ريادة الأعمال، في حين استُعيدت 70% من الأراضي المحتلة من التنظيمات الإرهابية وخاصة داعش في منطقة الساحل وتنظيم القاعدة في غرب أفريقيا. ولتحقيق التنمية المستدامة تماشيًأ مع المشاريع الصناعية، تم تحديث البنية التحتية للطرق وبناء مطار واغادوغو-دونسين الجديد، كل ذلك حدث مع إنهاء كامل للوجود الفرنسي على المستويات العسكرية والإعلامية والسياسية، كما سنلاحظ في الجزء الثاني من المقال الذي سيتناول الإنجازات السياسية والإدارية، الإقليمية منها والمحلية وحتى في التحالفات الدولية.
الخاتمة: نتيجة جميع ما سبق من الإصلاحات الزراعية في مجالي الزراعة وقطاع التعدين، وفقًا لمركز Africa Fact Zone، شهد الناتج المحلي الإجمالي قفزة من 18.83 مليار دولار في عام 2022 إلى 22.42 مليار دولار بحلول أوائل 2025. كما ارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي من 900 دولار في 2022 إلى 1200 دولار، مع توقعات بوصول القوة الشرائية للفرد إلى 2,726 دولار مع نهاية 2026، حسب تقديرات البنك الدولي.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أنه في نظر الكثيرين، أصبح إبراهيم تراوري رمزًا للأمل في القارة الأفريقية، حيث يجسّد روح التحدي ضد الاستعمار الجديد وأعاد صياغة معادلة السلطة في بوركينا فاسو ومنطقة الساحل. وبينما يراه البعض مسيحًا جديدًا يخلص البلاد من الفساد والإرهاب والتبعية، يظل بالنسبة لآخرين لغزًا يحتاج إلى مزيد من الوقت لفك شفراته، أما بالنسبة لمعارضيه فهو مجرد انقلابي كغيره.
لكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن عامين من حكم تراوري لم تكن مجرد فترة زمنية عابرة، بل لحظة فارقة أعادت رسم خريطة القيادة في أفريقيا، وجعلت من بوركينا فاسو دولة قادرة على استعادة سيادتها وتحدي الهيمنة الدولية.