آراء
في عالم السياسة والإدارة، وهما علمان متصلان لا ينفكا عن بعضهما، أثبت التاريخ أن التأثير الحقيقي للدول لا يعتمد على الحجم أو الموارد وحدها، بل على القدرة على استثمار الإمكانات بحكمة وذكاء. فهناك دول صغيرة تتميز بمحدودية مساحتها وعدد سكانها، لكنها تجاوزت قيود الجغرافيا والديموغرافيا لتبهر العالم بنتائج استثنائية. ونرى اليوم قطر اليوم مثال حي على هذه القاعدة، حيث نجحت في تحقيق دور ريادي يفوق حجمها بكثير، مستندة إلى نهج إداري مرن وفكر استراتيجي مستوحى من دروس التاريخ العربي.
ففي علم الإدارة، تُعد القدرة على تحويل التحديات إلى فرص إحدى السمات الأساسية للقيادة الناجحة. نرى الآن قطر، رغم صغر حجمها، استطاعت أن توظف مواردها بشكل استثنائي لخدمة القضايا الإقليمية والدولية، وأبرز تلك القضايا التي تبنتها تلك الدولة هو دعمها المستمر للقضية الفلسطينية، من خلال مشاريع إعادة إعمار غزة، وتمويل الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والتعليم والصحة، قدمت قطر نموذجًا عمليًا للإدارة الذكية التي لا تكتفي برد الأزمات، بل تضع أسسًا مستدامة للصمود.
أما دورها في الوساطة بين الأطراف المتنازعة لا يعكس فقط حنكة سياسية، بل إدراكًا عميقًا لديناميكيات الصراعات الإقليمية. هذه الوساطات لا تهدف إلى تحقيق تهدئة مؤقتة فحسب، بل تسعى إلى بناء حلول متوازنة تحفظ الحقوق الإنسانية وتقلل من الخسائر، ومن ذلك نجاحها في التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحماس لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، مما يعكس دورها البارز كوسيط دبلوماسي في الصراعات الإقليمية ، وذلك جاء بفضل طريقة ادارتها للملفات المتعلقة بالأطراف المعنية وقدرتها على بناء جسور الحلول ، وقد تمكنت الدوحة من تهدئة الأوضاع الميدانية، وتخفيف معاناة المدنيين في غزة. وتأمين ضمانات لتقديم مساعدات إنسانية عاجلة ودعم مشاريع إعادة الإعمار، مما يعزز الاستقرار ويضع أسسًا لتهدئة مستدامة. فهذا الاتفاق يؤكد مكانة قطر كقوة فاعلة في تحقيق السلام في المنطقة، واستمرار التزامها بدورها الإنساني والدبلوماسي لدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
ولا يمكن تناول أدوار الدول الصغيرة في الوساطة السياسية دون الإشادة بالموقف الدبلوماسي التاريخي لدولة الكويت، التي لعبت لعقود طويلة دور الوسيط الموثوق في العديد من النزاعات الإقليمية. فالكويت قدمت نموذجًا سابقًا في استخدام الدبلوماسية لحل الأزمات، مستندة إلى علاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف وحكمتها في إدارة الخلافات، من دورها في دعم القضية الفلسطينية إلى جهودها في إنهاء الأزمات الخليجية، فقد تركت الكويت إرثًا دبلوماسيًا أثرى مسار السياسة العربية، وأصبحت مرجعًا تستلهم منه الدول الأخرى مثل قطر اليوم.
وكوني متخصص في التاريخ العربي والاسلامي فإنه ما زال زاخراَ بأمثلة ونماذج لدول ومدن صغيرة استطاعت أن تلعب أدوارًا حاسمة في أوقات عصيبة، ابتداءَ من مكة والمدينة في زمن النبوة التي غيرت مجرى الصراع بين قوتين عالميتين في ذلك الزمان، إلى بغداد في عصرها الذهبي عندما واجهت القوى الشرقية الصينية و علاقتها مع الفرنسيس والجرمان، وقاهرة الظاهر بيبرس و علاقتها مع المغول وتحالفها مع اليونان، الى أدرنة التي خلقت نواة سقوط الإمبراطورية الاعظم في تاريخها بيزنطة، وغيرها كثير، فقد كانت هذه المراكز الصغيرة نسبيًا ذات تأثير فكري وسياسي هائل. وتأتي قطر اليوم تُحيي هذا الإرث، حيث تعمل كجسر للحلول وتتحمل مسؤولية كبرى في زمن تراجعت فيه الكثير من القوى الإقليمية عن أدوارها وصناعة الحلول المنهية للأزمات الإنسانية.
فما يميز التجربة القطرية هو فلسفة إدارية متوازنة تجمع بين الحزم والمرونة، والقدرة على قراءة الواقع بدقة واستباق الأحداث بحكمة، وبذلك أثبتت أن القيادة الحقيقية ليست في السيطرة على المساحات، بل في التأثير على مسارات التاريخ وصناعة التغيير.