تجارب
في التاسع من يناير ٢٠١٩ كتبتُ هذا النصّ، فور العودة لزنزانتي محكومًا بخمسة عشر سنة وملايين الجنيهات كغرامة، بتهمة الثورة في ٢٥يناير٢٠١١م
أنشرها للمرّة الأولى على سطور، لأتذكّر، وأذكّر بما كان منّا ومنهم .. ومازال
——
مثلي لا يصلح كيس ملاكمة، ولا سبيل إلا لأردّ الضربات
“الكفّ بكفّ
والكلمة بألف
والباطل -مَظروف لحظِتهُمْ-
هنردّه بتغيير الظرف”
**
أبشعُ ما في لحظَتِهم العبثيّةِ تلك: تضخّمُ الورمِ الذي أصابَ الدولةَ في ذاتها
تعاظَمت -وهمًا- في أمخاخِ تابعِيها؛ فظنّوا أنها غايةُ القصدِ
[بأيديهم خُلِقَت، مِنهم عُبِدَت، وبها رُميَ الآخرونَ بالكفرِ]
تناسوا أنَّ الوطنَ والإنسانَ، هما مقصودُ كلُّ تطوّرٍ بشريّ
هنا تصادمنا: نحنُ للوطنِ والإنسانِ “…بنيانُ الربّ”
وهمْ للدولةِ والسُلطان
اكتفوا بهما عمّا سواهما (تحقيقًا للمصلحةِ، وانتصارًا لأناهم المنتفخة)؛ فدَهسوا تحتهَما كلَّ شيء.
**
“انت مِش في ميدان التحرير هنا”، “هي دي الثورة يا دومة؟ همّ دول الثوار”، “المُتهم بيقولْ: شبابْنا شباب الثورة”، “أنا جايّ لدومة بسْ… خرّج بَقيّة المتهمين من القفص”، “٢٥خساير”، “الواد ده فاكر نفسُه غاندي.. وأنا هَعلّمُه الأدب وأعرَفُه حَجمُه”، “المَحكمة مِش هتسمح لك بالإيماءات والابتسامات والحاجات دي؛ هحبسك”، ” عليّ الحرام من ديني يا دومة ما أنا سايبك”.
لم يكن يرى شخصي-الضئيل، بل حشدًا ينايريًّا ثائرًا أُريدَ التنكيلُ به وسحقُه
عقابًا على الحُلم والأمل، وعقابًا على تهديد مصالحِ أسيادِه القَتلة وتهديد وجودهم القسريّ على صدرِ الوطن.
الجالسُ على منصّةِ الحُكم سألني عن الثورة.. ساومَني، هاجمَني على الثورةِ، سَخِرَ منها.. مَنعَ كلامي فيها، وأدانني -أخيرًا- بجريمةِ الثورة.
المحاكمةُ أدانتني علي تصريحاتِي، باعتبارها “اعتراف” بالجُرْمِ رغمَ أن محكمةَ النقضِ قالت “وسمّاها بالاعترافِ بارتكابِ الجريمة، رغمَ عدمِ توافرِ شروطِ هذا الاعتراف وأركانه. “لا يُعدّ اعترافًا صريحًا بالتهمةِ وتسليمًا بها، بل جاءَ مقيّدًا بوقائعَ أخرى قوامُها دفعُ اعتداءِ هذه القوّات بإطلاقها الرَّصاص عليه وزملائه في تظاهرٍ سلمي”.
شاهدُ الرؤيةِ الوحيد، شهدَ، وهو صحفي، بأنني كنت بصحبتِه هو والإعلاميين والصحفيين، في موقعِ المتابعةِ والتغطية، بعيدًا عن الاشتباكات.
قائدُ قوّاتِ المظلاتِ نفي شهادتَه أو مجردَ علمِه بقيامِي بحرقِ أو اعتداءِ أو إلقاءِ مولوتوف بطولِ وقتِ الأحداث (وهي التهمةُ التي تُصرُ وسائلُ الإعلام الرسمية على توجيهها لي رغمَ أنني لم أُحاكم بها).
مسئولُ المرورِ شهدَ بأنه أمرَ بإغلاقِ مداخلِ طريقِ القصر العيني قبلَ الأحداثِ بيومٍ كامل، وأنَ المتظاهرين غيرَ مسئولين عن ذلك.
المحاورُ التلفزيوني شهدَ أنني تحدثت عن مبدأِ حقِ المتظاهرين في الدفاعِ عن أنفسهم في مواجهةِ الرَّصاص الحيّ ولكني لم أفعلْ ذلك. وقال: “أخشى أن تُستخدمَ كلماتُ دومة الانفعاليةُ كمبررٍ لإدانتِه والانتقامِ منه ومن الثورة.”
صادرَ المجلسُ العسكريّ عددَ جريدةَ التحريرِ، التي نَشرت صورةً لأحدِ الضباط، وهو يُضرمُ النارَ في المجمعِ العلمي ولم يتم التحقيق.
مقدمُ البلاغِ أعترفَ في مقطعِ فيديو بأنّهم “قالوا لي تعالى قدم بلاغ في دومة”، “ووعدوني بشقة وكشك لو حبسته، وبعد ما شهدت ضحكوا عليّا”، وقد قال ذات الكلام لأحدِ كُتّاب “الأهرام ويكلي” وقامَ الكاتبُ بنشرِ تلك الشهادةِ في مقال.
الفيديوهات التي قدمتها لجنةُ تقصيّ الحقائقِ في أحداث الثورة، أثبتت قطعيًا عشراتِ وقائعِ القتل والحرقِ والسحلِ والتعريةِ والاعتداءِ، قامت بها قواتُ الجيشِ التي قامت بفضِ الاعتصام السلميّ، ورفضَ القاضي إثباتَ ذلك في محاضرِ الجلسات. كما رفضِ تسجيلِ مشاهدةِ واقعة إطلاقِ رَصاص حيّ على المتظاهرين، قامَ بها أحدُ الضباط، رغمَ تصويرها بدقةٍ في مقطع فيديو.
قدّم الدفاعُ شهاداتِ التشريح ل 19 شهيدًا، ارتقوا في الأحداث على يد قوات الجيش. وبدلًا من التحقيق في وقائع القتل. هدّدَ القاضي بتوجيهِ تُهم القتلِ لي، لا للقتلةَ الحقيقيين.
قام قاضي التحقيق بمساومتي -في وجودِ محاميّ: “اسحب البلاغ والصور والفيديوهات وأنا أروّحك”. كانت صورًا وفيديوهات لضباطٍ وجنود ارتكبوا الجرائمَ -ذاتها- المُوجّهة للمتظاهرين في القضية، بما في ذلك القتل، وحرقُ المباني الحكومية.
أحالَ القاضي هيئةَ الدفاعِ عني للنيابةِ العامة، وهدَّدهم أكثرَ من مرّة، لمنعهم من القيام بواجب الدفاع، مما اضطرَهم لرفعِ دعوى مخاصمة لهيئةِ المحكمة بعدَ رفضِ طلبِ رد الهيئة.
قررَ مجلس نقابةُ المحامين منعَ الحضورِ أمامَ قاضي مُحاكمتي، نظرًا للتجاوزاتِ الجسيمة التي ارتَكبها بحقّي.
“كنت هفرج عنك النهاردة، بس انت هتفت: يسقط حكم العسكر”. قالها قاضي التحقيق لي ثم أمرَ بحبسي.
مُنع الدفاع من الاطلاعِ على أوراقِ القضيةِ أمامَ محكمةِ النقضِ ومُنع من المرافعةِ وصدرَ الحكمُ دونَ الاستماعِ للمحامين.
اُحتُجزت بدون سند قانوني لنحو شهرين، بعد انتهاءِ مدّة عقوبتي الأولي ٣ سنوات، إلى أن أصدرَ قاضي مجلسَ الوزراءِ أمرًا بحبسِي، وقَنَّن جريمةَ احتجازِه دونَ وجهِ حق.
هذه الوقائعُ وغيرُها تقول: مَنْ حاكمَ مَنْ؟ على ماذا؟
كانوا يُحاكمون الثورةَ، وحَكموا عليها، وهُم القَتلةُ المجرمون.
**
“لمّا يكون عندي تاجر مخدّرات، كل ما أنزل عليه بحَملَه ما ألاقيش حاجَه، آخِرْ ما أزهق.. هالفّق له قضية بودرة ياخد فيها إعدام”
“ما أقدرش أقول للناس أنا حابس دومة عشان اللي عمله في ٢٥يناير.. هاقول لهم مجمع علمي، تخريب، خيانة، تمويل، هاقول أي حاجه، بس مش هاسمح تُخرج من السجن غير على قبرك “
“ادّيناك فرصة تبقى معانا، وانتَ اللّي رفضت عشان شُوية هَبل في دماغَك، ضَيَّعت الفُرصة تكون في السُلطة يبقى اخترت السجن أو القبر” … وقد كان.
حكموا بأدواتِهم، اللحظيّة، البائسة..
ونحنُ؛ سنحتَكمُ لضميرِ الوطن، للتاريخِ (تاريخَ الناسِ، لا تاريخَ السلطة)
يا هذا : تتهمُني بحرقِ مبنى، تعطيل طريقٍ، وتحريض الناسِ على التجمهر
وأنا أتهمُكَ بقتلِ الثوّار، بتعريةِ النساءِ، بتكميمِ الأفواه
أتهمُكَ بالتلفيقِ، بالتزييفِ
وأتهمُكَ -كما تستحقّ- بالكراهية
لا شيءَ في اتهاماتِك الباطلةِ تُعيبني أو تُخجلني (في مَعْرِض الدفاعِ عن الحُلمِ، الوطنِ، والحياةِ) رغمَ غَرقِ اتهاماتِك في الكذبِ والوقاحةِ
لم أكذبْ كما كذبْتَ. لم أقلْ الزوَر كما قلْتَ. لم أنحزْ لباطلٍ كما انحزْتَ. لم أعمِ بصري عن الحقِ كما تعاميتَ أنتَ.
[لم ترَ الحقّ، لا لأنّك أعمى، وإلا عُذِرتَ لعِلّتك
لم ترَه، لأن الحقَ يصطفي رسلَه:
شرفاءً، شجعانًا، ولا تابعين ]
(هُم) إرهابيونَ لأنَهم سَجنوا، عَذّبوا، قَتلوا واعتدوا، باسمِ الدينِ
وأنتَ إرهابيٌّ لأنّك سَجنتَ، عذّبتَ، قَتلتَ واعتديتَ باسمِ الوطنِ والقانونِ
«تِفتِكر -يا ابن الخَطيئة المُحكمة-
مين فينا أشبه بالوطن ؟
انتَ اللي قاتل عاشِقيه ومكمِّمُه؟
ولا اللّي ليهم كل شِبر ف تُربته
مَفرود كَفن؟ »
بخِسّةٍ، وضعتَني بَعيدًا. لم تَجرؤ على المواجهة
بجبنٍ، فعلتَ فعلتَكَ وأنا مقيّدٌ، في قفص
وبكاملِ الفُجرِ في الخصومةِ، أدخلتَ الرفاقَ، رموزَ الثورةِ، لتصلَ الرصاصاتُ لكلِ الجيل، لا ليّ وحدي.
عالجتَ، شكليّاً، عوارَ الحُكم الأوّل، وسددتَ إجرائيّا ثغراتِ تعسّفه
كُنتَ قفازًا، تُمحى بِكَ بصماتُ القذارةِ، تُستّف بكَ أوراقُ المظلمةِ المُحكمة
فقط: لتنفي عنّي كلّ احتمالٍ لمحاكمةٍ عادلةٍ، نزيهةٍ، آمنةٍ… أو مُستقلّةٍ
«أن تَضعَ مُلصقًا على قِطعةِ خِراءٍ مكتوبٌ عليها “قُرنفُلة”، لن يُغيّر ذلكَ من كنْهِها
ستبقى خِراءًا مهما ادّعيتِ وروّجِ صبيانُك الكَذَبة»
بحثتَ عن الإدانةِ فخلّقتَها
ولو فتّشتَ عن الحقيقةِ لتبيّنتَها
كانت أمامَ عينيكَ، ولم تُبصرها-عَمدًا مع سبقِ الإصرار
حَكمتَ عليّ زُورًا بالسجنِ
وأنا لا أقبلُ الحكمَ
لن أقبلُه لأنّه ظالمٌ، منحازٌ، ومُهدِرٌ للحقيقةِ والدمِ.
يا هذا: أحكمُ عليكَ بالعارِ أبدًا
فابقَ في قعرهِ حتى تتعفّن.