سياسة

جائحة الإعاقات في غزة.. الطفولة “المبتورة”

يناير 11, 2025

جائحة الإعاقات في غزة.. الطفولة “المبتورة”


تعي إسرائيل جيدًا أن حقد الفلسطيني عليها متوارث، فالفلسطيني لا يرث من أبيه اسمه وملامحه وبيته فقط، بل يرث الثأر كذلك ممن سرق البلد وممن قتل القريب، وربما قتل الأب أيضًا.


لذلك تعتبر إسرائيل أن كل طفل هو مشروع حاقد عليها، ومشروع ثائر مستقبلي، وتفهم جيدًا ما قاله القائد الألماني الشهير “إرفين روميل”: “التخطيط للحرب يبدأ مع الأطفال، فهم من سيحمل الراية غدًا”. 


وبما أنها لا تريد راية للفلسطيني في الغد وتحاول إسقاط راية اليوم، فكل فعلها في غزة ممنهج، وحربها على الأطفال هناك هو فعل متعمد وليس عرضيًا كما قد يظن البعض.

 

تعمل إسرائيل منذ نشأتها على قتل هوية الطفل الفلسطيني، أو قتله تمامًا متى جاءت الفرصة، وبعد السابع من أكتوبر، وفي إطار حربها الشاملة على الإنسان الفلسطيني، تحول ما كان سرًا ويحاولون تسويقه على أنه حوادث عرضية، إلى منهج معلن، فكان للأطفال نصيب كبير من الخطة الإسرائيلية لتركيع الفلسطيني وإجباره على النسيان مرتين، نسيان حقه في الأرض مرة، ونسيان ما حدث في السابع من أكتوبر مرة أخرى. 

 

قتل الأطفال عقيدة دينية

  

في كتاب “عقيدة الملك” الذي كتبه حاخامان مشهوران يقيمان في مستوطنات الضفة الغربية، يقول الحاخام يتسحاق شبيرا: “في حال أن الأطفال سيلحقون الضرر باليهود عند نضوجهم، يحل قتلهم عمدًا، ليس فقط قتل ذويهم البالغين”، وفي فقرة أخرى في الكتاب تحت فصل “الاعتداء المتعمد على الأبرياء”، يستبيح الحاخامان “قتل أطفال زعماء الأغيار” لممارسة الضغوط عليهم، وأهل غزة بالتأكيد على رأس قائمة “الأغيار” بالنسبة لهؤلاء، لهذا لا يفكر الإسرائيلي مرتين في حربه على الغزيين، وتحديدًا على أطفال القطاع. 

 

إذا ما حاولنا النظر إلى الحرب الحالية على قطاع غزة، فهي تعمل على محورين، الأول تدمير نواة المجتمع الغزي، بما في ذلك المدارس، والمستشفيات، والمساجد، والنوادي الاجتماعية، فضلًا عن المنازل، وكل ما يربط الإنسان بالأرض، والمحور الثاني يكمُن في تدمير “البنى التحتية الإنسانية” إن جاز التعبير، تدمير ساكني هذه البقعة بشكل ممنهج، رجلًا أو امرأة، طفلًا أو شيخًا، كما تدعو بذلك العبارات التوراتية التي تُحرك الجيش الإسرائيلي والتي اقتبسها نتنياهو شخصيًا بداية الحرب.

 

وعندما نتحدث عن الأطفال في هذا السياق، فبعيدًا عن الأرقام التي تملأ بيانات المنظمات الأممية والمنظمات الحقوقية، والتي تحولت إلى جداول يومية ممتلئة بالأعداد من أجل التوثيق أو استنهاض المجتمع الدولي الذي أدار وجهه منذ فترة طويلة، وفي إطار هذه الحرب، يركز الإسرائيلي جزءًا كبيرًا من جهوده على “الجيل القادم”، وهذا ليس اعتباطيًا أو مبالغة، الأرقام تكشف ذلك، للدرجة التي دفعت فيليب لازاريني، مفوض الأونروا ليقول إن إسرائيل في حربها تضحى بجيل كامل من أطفال غزة، مضيفًا: “الفلسطينيون ليسوا غرباء عن الفقد، ولكن هذا الفقد الجديد غير مسبوق بالنسبة لهم”. 

 


استراتيجية حرب إسرائيل على الأطفال

 

تعتمد الاستراتيجية الإسرائيلية في هذه النقطة على ٣ محاور:

 

  • القتل المباشر والإصابات:

 

تقصف إسرائيل عادة باستخدام صواريخ ثقيلة وفتاكة منازل عائلات بأكملها بمن فيهم الأطفال، لتضمن قتل كل المتواجدين في المكان لدرجة تبخر أجسادهم، وأحيانًا تستخدم صواريخ من النوعيات التي تضمن توزيع الإصابات على أكثر عدد ممكن، مما يعظم من أعداد الجرحى والمصابين بـ”بتر الأعضاء”، ما دفع لازاريني مفوض الأونروا للقول إن غزة تتعرض لـ “جائحة إعاقات” بأعلى نسبة أطفال مبتوري أطراف في العالم! وذلك بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية أن طفلًا من كل ٤ أطفال يحتاج إلى خدمات إعادة تأهيل، بما فيها الرعاية بعد بتر الأطراف وإصابات الحبل الشوكي.


 إضافة إلى هذا الرقم الصادم، أعلن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية رقمًا آخر لا يقل خطورة، إذ يفقد ١٠ أطفال غزيين يوميا ساق واحدة على الأقل، لتصبح بذلك غزة موطنًا لأكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث!


  • نشر الأمراض:

من لم تقتله إسرائيل بالرصاصة أو القنابل والصواريخ، دبرت له قتلة أخرى، بعد  إتاحتها الأسباب لانتشار أمراض الجهاز التنفسي الذي أصاب قرابة نصف مليون غزي نتيجة التلوث ونقص الأدوية، وإصابة أكثر من ربع مليون شخص بالالتهاب الرئوي، بالإضافة لفيروس الكبد الوبائي C.


  • التدمير النفسي والاجتماعي:

 

بعد قتل وبتر أطراف أكبر عدد ممكن من الأطفال، وإشاعة المرض فيهم، تعمل إسرائيل على تدمير نفسي ممنهج لمن تبقى منهم. وقد أظهرت دراسات  أن ٨٠٪ من أطفال غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادة مثل اضطراب ما بعد الصدمة PTSD.


إضافة لذلك، ولنشر الجهل وقتل الأجيال القادمة معرفيًا وعلميًا، يقوم جيش الاحتلال بتدمير ممنهج للمدارس والجامعات، بالإضافة إلى حظره الأونروا التي تحمل على عاتقها بشكل كامل مسؤولية إنشاء المدارس وصيانتها والاهتمام بالجانب التعليمي، علمًا بأن نسبة الأمية في غزة قبل الحرب كانت متدنية تمامًا للدرجة التي تناهز الصفر، وهي من أقل النسب المسجلة للأمية في العالم العربي.

 

جائحة القتل


نشاهد مقاطع الفيديو التي تصور مشاهد علوية من غزة، وتلتقطها طائرات المصورين المسيَّرة، بقايا بيوت متراصة على امتداد الأفق. مشهد مزخرف بالركام المنتظم الذي ينبئ عن مدن كانت مرتبة، وعن شوارع كانت منتظمة.


حيال هذه الصورة دائما ما يسيطر علىَّ هاجس واحد، تبدو تلك المربعات وكأنها توابيت، كل بيت كان تابوتًا لبشر كانوا أحياءً قبل جائحة الدمار التي مرت، أو “جائحة الإعاقات” كما تصفها الأونروا، ولكن التوصيف الدقيق هنا، أنها جائحة قتل، والأدق أنها جائحة إبادة جماعية، للإنسان والحجر والشجر، والأطفال على رأس القائمة.



شارك

مقالات ذات صلة