كمال عدوان وحسام أبو صفية وعبدالله بن أنيس: ثلاثةُ رجالٍ بقلبٍ واحد
لقد اغتلنا المهندس كمال عدوان القياديّ في حركة فتح في بيروت عام 1973م، فلماذا يعود مجدداً ليضمد الجرحى، ألم نغتله منذ 52 عاماً؟” في كل مرّةٍ يجتاحون فيها مشفى كمال عدوان أسمع تلك العبارة تتردد من سائر أرجائه، من بين أسرة المصابين وأنابيب الأوكسجين التي نفدت، من وجوه الأطباء المرهقة ومولدات الكهرباء التي تحاول بالكاد العمل، وسمعته آخر مرّة من جسد فني الكهرباء الذي كان متوجها إلى المشفى لإصلاح عطل في مولداته، فأحرقه الاحتلال وهو حيّ، لماذا يقتلون بهذه الطريقة المرعبة؟ لأنّهم بعد كل مجزرة يسألون أيّها الفلسطيني كيف تعود مجدداً؟ ألم نقتلك مثل كمال عدوان منذ زمنٍ طويل؟
الشهداء لا يموتون، هذه الحقيقة القرآنية التي ستظلّ معضلة بالنسبة للفهم الصهيوني، نعم لم يمت كمال عدوان، وقد رجع هذه المرّة من جديد وهو يمسك بيده يد الطبيب حسام أبو صفية !
الحسام وهي مفردة عربية مشتقة من الحسم، أي إزالة أي تردد تحسّه تجاه أي شيء، وجاء حسام ليحسم لنا جدلية (المع والضد) إذا لم تكن مع مشفى كمال عدوان أي مع فلسطين فأنت محسوم أمرك في أنك عنصر صهيوني بامتياز.
استطاع حسام أبو صفية مدير مشفى كمال عدوان، أن يجعل قضية مشفاه قضية عالمية، ليس فقط لأنّه لم يقبل بإخلاء المشفى تحت التهديد الصهيوني وليس لأنّه يملك جنسية أخرى يستطيع الخروج عبرها من القطاع في أي وقت، بل لأنّه ابتغى وجه الله في مهنته، وكثيراً وأنا أنظر إلى وجهه أقول في قلبي (حسام أبو صفية أيّها الوليّ الخفيّ) لقد أظهرت هذه الحرب على غزّة كثيراً من الرجال والنساء ما كنّا لنعرف صدقهم مع الله لولا هذه المحنة العصيبة التي مررنا بها، وكأنّ حرب غزّة قسمت كل شيء في هذا العالم إلى فسطاطين، فسطاط إيمان وفسطاط كفر، على صعيد السياسيين والمفكرين والمثقفين والشعراء والفنانين وحتى الأطباء، وأفكّر كيف يُظهر الله أحداً ويُعلي اسمه رغماً عنه، لأنّه يريد أن يُظهره للناس كافة، ليستشهد ابن الطبيب حسام أبو صفية ويصلّي عليه مرتدياً معطفة الأبيض في مشهدٍ لا يمكن لأحد أن يتجاوزه بينما ابنه الجميل إبراهيم مسجّى أمامه، ترتعش من حزن صوته وجلاله كل القلوب والعقول، ثم يمضي ليكمل تطبيب جرحاه، ولم تنتهِ الحكاية هنا، بل وأصابه الاحتلال بطلق ناريّ في محاولةٍ لتصفيته، لكنَّ الإصابة لم تمنعه من إكمال دوره الإنساني العظيم، ليقف مرة أخرى أمامنا على عصاه المعدنية التي يتكئ عليها وهو يدور بين المصابين والجرحى يطمئن عليهم ويبتسم لهم وهو رجل وحيد أعزل يواجه أشرس ترسانة حربية على الأرض، احتلال تفوّقَ على المغول في مجازره، وعلى هتلر في ساديته، ليقف أمامه أبو صفية بقلب موجوع وعكّازٍ معدنيّ يتكئ عليه بعد إصابته، مصرّحاُ بعنفوانه العالي (لن أتخلّى عن مرضاي).
يسوقني القدر لأقرأ في هذا الوقت قصّة جميلة للصحابيّ عبدالله بن أنيس مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد أمره الرسول بقتال خالد بن سفيان بن نبيح الذي كان يجمع الناس لمواجهة النبيّ، حين أنجز مهمته أعطاه حضرة النبي عليه الصلاة والسلام عصا، فقال له لماذا هذه العصا يا رسول الله، فأجابه: “هذه آية بيني وبينك يوم القيامة، إنّ أقل الناس المتخصّرون يومئذ” وقد طلب عبد الله بن أنيس أن تدفن عصا رسول الله معه في قبره، وقد فعلوا، والمتخصّرون، هم الذين تكون أعمالهم الصالحة مثل العصا يتكئون عليها يوم القيامة، فهنيئاً لك يا حسام أبو صفية.
خائفون عليك؟ نعم كثيراً، وكل غزّة وكل حر شريف في هذا العالم خائف عليك، لكنّك متخصّرٌ برهانك على الله وعلى عصاك التي اتكأت عليها مصاباً وعلى ابنك البكر الشهيد إبراهيم، وعلى صبرك على الجوع والعطش وقلة الإمكانيات، وعلى زهدك العظيم، وترفعك عن مغادرة القطاع رغم كل المغريات لسفرك، هل سنخاف عليك بعد ذلك؟
ثمّ ختمت كل هذه العظمة، بصورة أظهرها الله عز وجل للعالم رغماً عن أنف الاحتلال وأنت متوجه إلى أعدائك شامخاً عالي القدر تتوشح معطفك الأبيض وتحفك ملائكة الرحمة، لماذا أظهر الله عز وجل صورتك؟ وكان يمكن أن تُعتقل دون أن يعرف أحد ماهية اعتقالك ودون أن نرى ذلك الثبات الأسطوري لك يا سيدي؟
لأنّه الله، ولأن قلبك الذي جعلت نية صمودك من أجله تاركاً متاع الدنيا كله، سيظهرهُ على الناس وعلى العالم إنّك في حصن العزيز الذي أظهرك على الناس أجمعين، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وأسأل الله العليّ القدير أن يقرّ عيوننا عاجلاً بعودتك وعزّتك وانتصارك وأن يجعلنا من الذين يظفرون بعدوهم عاجلا غير آجل، والسلام عليك حساماً صفياً مسلولاً لا يغمَدُ أبداً مهما حاول المنافقون وأشباه خالد بن سفيان بن نبيح أن يفعلوا، ألا إنّك متخصّرٌ بآيات الله، ألا إنّك منصورٌ منصورٌ منصور.