استعادة الهوية السياسية للسوريين: حاجة ملحّة بعد عقود من التهميش
يناير 9, 2025
37
استعادة الهوية السياسية للسوريين: حاجة ملحّة بعد عقود من التهميش
الكاتبة: رند صفوان
على مدار أكثر من خمسة عقود، عانى الشعب السوري من غياب كامل للحياة السياسية بفعل القمع المُمَنهج الذي مارسه نظام الأسد الأب والابن. منذ انقلاب عام 1970، أُقصِي المواطن السوري عن أي دور حقيقي في صنع القرار أو حتى في مناقشة القضايا العامة وبات تائهاً في المفاهيم المغلوطة حول السلطة والحكم. اختزل النظام مفهوم السياسة في الولاء للحزب الحاكم الوحيد في البلاد حسب المادة الثامنة من دستور سوريا عام 1973 وبهذا يكون قد ضرب أحد أهم اُسُس الديمقراطية المتمثلة بالتعددية الحزبية كما ألغى الفضاء العام الذي يمكن أن ينمو فيه وعي سياسي حقيقي، نتيجة لذلك أصبحت أجيال كاملة من السوريين تجهل حقوقها السياسية، بل وتخشى حتى التفكير في العمل السياسي انطلاقاً من الخوف.
هذا بالطبع ليس ذنب الشعب أو تقصيراً منه بل إرث نظام الأسد الذي فرضه علينا بعد رحيله حتى وهو في المنفى بمثابة الرصاصة الأخيرة التي من المفترض أن تشلّ حركتنا لأطول فترة مُمكنة ليترتّب على ذلك انهيارات واضحة في صفوف الشعب لكن هيهات! مع سقوط نظام الأسد وفتح الباب أمام مرحلة جديدة تبدو الحاجة ملحّة لإعادة بناء وعي سياسي حقيقي لدى الشعب السوري، ليس فقط كحق من حقوق المواطنين ولكن كضرورة حتمية لضمان نجاح التحول الديمقراطي وبناء دولة تقوم على المشاركة والعدالة.
تثقيف الشعب سياسياً يعني تحريره من قوقعة الخوف وتزويده بالمعرفة اللازمة لفهم حقوقه وواجباته وآليات العمل الديمقراطي التي تتطلب مشاركة واعية ومسؤولة، فالشعب الذي يفهم أدوات الديمقراطية سيكون قادراً على اختيار ممثليه ومحاسبة حكامه وحماية مكتسبات الثورة من الانحراف، هذه الثورة التي دفعنا ثمنها دماء الشهداء وأعمار المعتقلين أحياءً وأموات. في الفترات الانتقالية، يستغل ضُعَفَاء النفوس وأصحاب المصالح جهل الشعوب لتمرير مشاريعهم التي تخدم قلة على حساب الأغلبية، وحده التثقيف السياسي ممكن أن يقطع الطريق أمام هذا الاستغلال.
إن المرحلة الانتقالية ليست مجرد وقت للانتظار ولا تُختَص بها الدولة فقط، بل هي فرصة ذهبية لنا كأفراد للانتقال بمعرفتنا السياسيّة من مستوى معيّن نحن عليه إلى مستوى أعلى منه، تأتي هذه الفترة لتكون بداية صفحة جديدة تُزرع فيها بذور المعرفة.
كيفَ لنا ذلك؟ لا توجد وصفة موحّدة أو خارطة طريق واحدة لزيادة الوعي السياسي تناسب الجميع، فكل فرد هو أعلم بنفسه وبما يثير اهتمامه ويدفعه للتفكير بعمق.
الوعي ليس مفهوماً جاهزاً يمكن تلقيه عبر كتاب أو محاضرة فحسب، بل هو عملية متكاملة تتأثر بتجارب الشخص، اهتماماته وفضوله تجاه فهم العالم من حوله.
البعض قد يجد نفسه غارقاً في صفحات الكتب التي تسرد تجارب شعوب أخرى في التحولات السياسية، بينما قد يفضل آخرون خوض النقاشات مع أشخاص من خلفيات مختلفة لتوسيع مداركهم.
هناك من يفضّل اللغة البصريّة فيلجأ إلى متابعة الأفلام الوثائقية لفهم قضايا معينة بعمق، وهناك من يرى في الأحداث اليومية وما يحيط به فرصة جيّدة لتعلم شيء جديد وهنالك أيضاً من يقرر دراسة السياسة وفهمها عن كَثَب ليكون مؤهلاً بشكل أكاديمي. كل هذه الطرق مشروعة ومختلفة، لأن الوعي في النهاية رحلة شخصية يبدأها كل فرد بطريقته الخاصة. المهم ليس أن نسلك جميعاً نفس الطريق، بل أن نبدأ من حيث نحن، بما نملك وبما يلهِمُنا للاستمرار.
الهدف الأساسي هنا ليس تقديم لائحة بالمهام أو الأنشطة التي “يجب” القيام بها، بل هو إثارة فكرة أكبر: كيف يمكن لكل منا أن يُسهِم الآن في هذه المرحلة الانتقالية ولاحقاً ببناء الدولة بطريقته الفريدة؟ كيف نترجم اهتمامنا إلى معرفة، ومعرفتنا إلى أفعال؟