آراء
بينما كان مستشفى كمال عدوان يحترق، وأعمدة الدخان تتصاعد من أقسامه، وجثامين الشهداء الذين أعدمهم جيش الاحتلال ميدانيًا ملقاة في محيطه، كان الحديث في هذه اللحظة ينصب على صورة أخرى، وهي صورة مسربة للطبيب حسام أبو صفية يتوجه نحو دبابة إسرائيلية.
التعليقات تناثرت في الحديث عن بهاء الصورة، وقوة الطبيب، وعظمة ردائه الأبيض، وبالغ أحدهم حينما رسم الطبيب بردائه أكبر حجمًا من الدبابة، وآخر رسم رداء الطبيب مرفقًا به حرف S وكأن أبو صفية “سوبر مان”، وهي رمزيات مقبولة بشكل عام، ولكن الرمزية في أحيان معينة مثل تلك قد تصبح مُخِلَّة ومُختلة.
لم يكن أبو صفية لحظة التقاط هذه الصورة سعيدًا. كان يتجه للدبابة وهو يعلم أن مصير مشفاه الذي يعج بمئات الجرحى والأطباء أصبح في المجهول، وهو يعلم أن مصيره هو شخصيًا لن يكون أفضل حالًا من المستشفى. وهذا ما حدث، فبعد الصورة، عذب جنود الجيش الإسرائيلي أبو صفية بـ”سلك كهربائي” جلدوه به أمام بقية المعتقلين، قبل أن يختطفوه إلى سجن سديه تيمان سيئ السمعة.
كل هذا لا ينفي صبر وتحمل وشجاعة الدكتور الذي كان بإمكانه أن يترك مرضاه في وقت مبكر وينسحب إلى مكان آخر، ولم يكن ذلك ليقلل من شجاعته، لكنه آثر البقاء معهم حتى النهاية.
الترخيص الأخلاقي والنشاط الزائف
هذه المقدمة كانت ضرورية قبل طرح سؤال: لماذا نهتم كثيرًا بمحاولة استخراج صورة البطولة من الانكسارات؟ ولماذا لا نهتم بالحدث الأصلي المأساوي بقدر اهتمامنا باللقطة التي اعتبرناها انتصارًا؟
باحثو علم النفس الاجتماعي أصابتهم الحيرة في الرد على هذا السؤال القديم، إذ فسّر بعضهم الظاهرة بما بات يُعرف بـ “Moral Licensing” أو “الترخيص الأخلاقي”، وما هو في هذا السياق إلا محاولات الإنسان للتقليل من أثر وحجم الواقع المأساوي الذي يجب أن يشارك في حله، عبر أفعال رمزية، كي يستريح ضميره ويشعر أنه أدى ما عليه.
لتقريب المثال، هذا الإنسان قد يتابع الأخبار المأساوية القادمة من مستشفى كمال عدوان، يشاهد الجثث والخراب والحريق ويشعر بألم داخله، ومن ثم يفاجأ بهذه الصورة، التي ستساعده على التعافي من صور الخراب، فيعتبرها انتصارًا ويشيد بها لشَغل عقله وضميره، ولإعطاء نفسه “ترخيصًا أخلاقيًا” لكي يتجاوز الموقف برمته، ولا حاجة لفعل المزيد.
ومع ظهور الانترنت أوائل الألفينيات، ظهر مصطلح آخر وهو “Slacktivism” – “النشاط الزائف”، ويُقصد به الأفعال البسيطة وغير المكلفة التي تمنح المرء شعورًا زائفًا بالإنجاز وراحة الضمير، وكأنه ساهم بشكل ما في تصويب الأمور، بينما في الواقع قد يكون تأثيره الحقيقي صفريًا، كما وصفت الكاتبة إفغيني موروزوف في كتابها “The Net Delusion – وهم الإنترنت”، مما يُنهي فرص الفعل الحقيقي والجاد، فتتحول القضايا الجادة والأحداث الكبرى إلى مجرد “صيحات مؤقتة”.
وَهم الفِعل
قد يعتقد المرء أن في هذه الشروحات مبالغة، ولكن كان لافتًا من فترة قيام أحد “المؤثرين” بالحديث عن حرب غزة بقوله إنه من أكثر من ناصر غزة، ولولاه لخسر أهلها دعمًا كبيرًا “على مواقع التواصل الاجتماعي”. هذه الحالة لم تكن الأولى، قبلها بأشهر قام مؤثر آخر، زار غزة خلال الحرب مع إحدى الجمعيات الخيرية، بتكرار ذات النغمة عن أهمية ما يفعله على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن الغزيين يجب أن يقدروه ويعرفوا حجمه وفاعليته قبل انتقاده.
هذه التصرفات من قِبل الشخصين هي تصرفات واقعة تحت “الوهم”. وهم التأثير ووهم الفِعل. ما يجعل هؤلاء الأشخاص يعتقدون أن لهم دورًا ما خياليًا، وتنقلب الآية، فبعد أن كان ما يفعلونه في البداية يتم لمجرد إراحة ضمائرهم، صاروا يشعرون الآن أن لهم دوراً فاعلاً في شيء أكبر بكثير.
وِحدة الغزي
يبيت المواطن الغزي اليوم في الخيمة على الأرض، وينتظر الموت بردًا أو جوعًا، قصفًا أو حرقًا، وحيدا تمامًا، ليس معه ولا يؤازره أحد. فلسطينيًا كان أو غير فلسطيني، عربيًا كان أو غربيًا، لم يقف معه أحد، إلا باستثناءات معدودة على أصابع اليد الواحدة.
في المقابل، نستعيض جميعنا عن الدور الواجب، ببعض الكتابات بين الحين والآخر، للتعبير عن الغضب وإراحة الضمير، وربما مشاركة صور الطبيب “سوبر مان” الذي يقف أمام دبابة، لنتمكن من النوم بعد ليلة مريرة شاهدنا فيها الأجساد تحترق، والمستشفى الأخير يُدمر، في تعبير نموذجي لمفهوم “الجماهير الأولتراس”.
نصفق عندما ينتصرون، ونتفادى صور الخسارات والحزن بالبحث عن “أفضل اللقطات”.. نشاركها عبر حساباتنا المختلفة، ثم نواصل متابعة الأحداث في انتظار مشهد أيقوني جديد يحتمل أن يكون.. “رمزاً للانتصار”.