آراء
يكمل آفي شلايم حكايات هجرة أسرته اليهودية من العراق في مذكراته “العوالم الثلاثة”، فقد وصلت الأسرة في أيلول/سبتمبر من عام 1950 إلى إسرائيل، جدته نانا وأمه ليديا وأخته ڤيلما وهو، إلى ميناء حيفا على ظهر مركب. كان عمر إسرائيل عامين لا غير حين رسوا على شاطئها.
يتذكر شلايم في طفولته على وجه الخصوص قوالب الزبد التي كانت تأتي بغلاف يُعلن بحروف حمراء «زبد مستورد من الولايات المتحدة الأمريكية»؛ كانت أمريكا تبيع المنتجات الزراعية الفائضة مثل الزبد لإسرائيل ويُدفع لها بالعملة المحلية، الأمر الذي ساعد على دعم العملة الإسرائيلية وإنهاء عملية ترشيد استهلاك المؤن. كانت تلك هدية من العم سام لشعب الدولة الفَتيَّة، وإشارةً مبكرة إلى المعاملة التفضيلية التي منحتها الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل.
أرض المعاد: وصول أسرة شلايم إلى إسرائيل
كان عدد سكان الدولة الوليدة لا يتجاوز 650 ألف نسمة، بينهم 150 ألفًا من العرب، فقد كانت هجرة اليهود الكبرى أولويةً قصوى للقادة الإسرائيليين. عند لديڤيد بِن – غوريون، أول رئيس وزراء، كانت الهجرة مسألةَ وجود وأمرًا مُهِمًّا لصناعة دولة من المهاجرين بُنِيَت على ضحايا عرب.
في أول الأمر، أقبل اليهود من أوروبا، بعضهم ناجون من المحرقة النازية، الهولوكوست. تَلَقَّوا معاملةً تفضيلية: مُنحوا منازلَ العرب الذين هربوا أو طُرِدوا إبَّان الحرب ولم يكن مسموحًا لهم بالعودة، في تحدٍّ لقرار الأمم المتحدة، فقد رفضت إسرائيل منح حقِّ العودة أو التعويض لـ750 ألفَ لاجئٍ.
عند الكيان الصهيوني المزروع عنوة، لم تكن مهمة استيعاب سائر المهاجرين الجُدد سهلةً؛ بعد يهود أوروبا جاء يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: العراق 120 ألفا، اليمن 45 ألفا، تركيا 31 ألفًا، إيران 21 ألفًا، مصر 16 ألفا، المغرب 30 ألفًا، تونس 13 ألفًا، ليبيا 31 ألفًا، الجزائر ألف وخمسمئة. لم يكونوا يُسَمَّوْن لاجئين، بل «أوليم» (مهاجرين).
أزمة العروش صدمة الجيوش
أرقام هجرة اليهود العرب إلى إسرائيل تجعلنا نطرح سؤالاً نقدياً حول مواقف الحكومات العربية الضعيفة وتَساهُلها في معالجة قضية اليهود العرب، وعدم تفكيرها في خطورة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، ونظرتها القطرية الضيقة إلى هذه المشكلة، وجعل طائفة اليهود مشكلة تُحَلّ بالطرد بلا تفكير في جعلهم جزءاً من هذه الدول حتى لا يتحولوا إلى خصوم في إسرائيل، والذي تدل عليه وقائع التاريخ هو قِصَر نظر الأنظمة العربية وضعف فهمها القضية الصهيونية.
يقول المستشار طارق البشري في ملاحظة بديعة عن حالة الملكية في مصر وضعف الوعي بالسياسة العالمية: “قد هالني ما أوضحه كتاب (العروش والجيوش) لمحمد حسنين هيكل، من مقدار الجهل بالأحداث الجارية في البيئة المحيطة، لدى صانعي القرارات الكبرى في القصر الملكي في مصر (السراي)، لم يكُن جهلًا يُنسَب فقط للملك، وهو شابّ بين الخامسة والعشرين والثامنة والعشرين وقتها، ولم يكُن أكمل تعليمًا حقيقيًّا له من قبل، وإنما هو جهل يُنسَب إلى (السراي) بوصفها مؤسسة سياسية حاكمة، فيها رجال كبار وتستعين بعناصر من أكبر ساسة مصر القريبين للمك، ويرأس الديوان الملكي على التوالي، شخصيات هي من صفوة الصفوة في النخب السياسية العليا في البلاد”.
ثم يكمل البشري: “يكفي أن الملك الذي اتخذ قرار الحرب في مايو 1948 لم يكن في نوفمبر 1947 شعر بخطورة ما اتخذته الأمم المتحدة من قرار بتقسيم فلسطين، ولا فهم سببًا للحماسة الأمريكية لإنشاء دولة إسرائيل، يكفي أن قرار الحرب اتُّخذ في الأيام القليلة السابقة على إعلان الحرب ودخول الجيش المصري لأرض فلسطين، يكفي أن الخرائط التفصيلية لم تكن متوافرة، وأن خُطَط العمل كانت بالغة العموم وعدم التحديد، يكفي أيضًا أن رئيس الوزراء الذي أبدى عدم موافقته على دخول الجيش الحرب، عارض ووافق بعد أيام محدودة دون سبب معروف وأنه أيّد قرار الحرب في مجلس البرلمان بعبارات إنشائية عامة، كان القرار شبه عشوائي”.
يكمل البشري قوله: “وما هالني في هذه المسألة، أن الملاحظة ذاتها كنت لاحظتها وأنا أقرأ مذاكرات مصطفى النحاس باشا التي أعدّها وكتبها سكرتيره محمد كامل البنا، فقد كانت معرفته ومتابعته للأحداث العالمية وللأحداث العربية محدودة للغاية، وكان إدراك ما يجد من تعديلات في موازين القوى السياسية ومن تغييرات في الأوضاع الحاكمة للمسألة الوطنية كان ذلك جِدَّ محدود، فصارت السياسة أقرب إلى ردود الفعل، وبقي الإدراك ذا صبغة محلية، وكانت المعرفة بوقائعه السياسية سماعية، وتُتناقل عن طريق المناولة الشخصية”. من كتاب المستشار طارق البشري “شخصيات وقضايا معاصرة”.
عائلة شلايم في إسرائيل
أما أسرة شلايم فكانت الهجرة الكبرى عمليةً مؤلمة، إذ غادروا أوطانهم وحيواتهم تمامًا، كانت الهجرة بالمصطلح اليهودي تعني الصعود، لكن كانت هبوطًا لعائلته، لم يهبطوا على السُّلَّم الاجتماعي والاقتصادي فقط، بل فقدوا ثقتهم بأنفسهم أيضًا، ومكانتهم الاجتماعية وشعورهم الفخورَ بهُويتهم كونهم يهودًا عراقيين.
معاناة عائلته كانت أقل بكثير من معظم المهاجرين العراقيين الذين انتهى بهم المطاف في خيام وأكواخ. مهما يكن من أمر، استلزمَ الانتقال من العراق إلى إسرائيل، والانتزاع، والنزوح، الألم العاطفي والارتباك السيكولوجي للأسرة كلها، وأمه وشقيقتيه، حتى يتكيفوا مع البيئة الجديدة.
استفزني في هذا الفصل حديثه عن معاناة الهجرة لهذه الأسرة اليهودية التي كانت على جثث ضحايا عرب ومواطنين فلسطينيين اقتُلعوا بفعل التهجير العنيف في النكبة، عبر المذابح مثل الطنطورة والتهجير وتفريغ القرى من ساكنيها.
على أي حال، كانت تجرِبة يهود العراق مُهِينة؛ عند وصولهم إلى إسرائيل، في المطار، رشُّوا عليهم مبيدًا قاتلًا للحشرات (DDT) لتعقيمهم، كأنهم حيوانات. كانت تجربةً بالغة الإذلال. ثمَّ أخذوهم إلى المعسكرات المؤقتة، أو المخيمات المؤقتة، أو معسكرات العبور. تألفت وحدة السكن في الـ«مَعْبَرة» من الخيام أو أكواخ الحديد المضلَّع (الشينكو)، مع وحدة اغتسال وطهي بدائية. كانت الظروف المعيشية قذرة وغير صحية، وكان مصادر الماء شحيحة وغير كافية.
زيادةً على ذلك، كانت المؤسسة الإسرائيلية عازمةً على قمع الثقافة العربية ومحو هُوية اليهود الشرقيين من خلال إجبارهم على الانصهار في بوتقة أشكنازية-أوروبية. أشارَ ديڤيد بِن غوريون إلى المهاجرين الشرقيين بوصفهم «حشودًا هَمجية». شخص آخر شارك في هذه الغطرسة هو وزير الخارجية أبا إيبان، الذي أفاد قائلًا: «ينبغي أن يكون الهدف غرسَ روح غربية فيهم، وأن لا نَدَعهم يجرُّونَنا إلى شرقٍ غير طبيعي». العدسة التي كان يُنظَر من خلالها إلى المهاجرين الجُدد هي نفس العدسة الاستعمارية التي كانت تنظر من خلالها المؤسسة الأشكنازية إلى الفلسطينيين.
أسماء عبرية في الدولة الجديدة: يهود العراق في الدولة المخترَعة
يوضِّح شلايم سهولة الحصول على الجنسية الإسرائيلية في ذلك الوقت، إذ أُصدِرَت لهم فورًا شهادة مهاجر، وهي بطاقة هُوِيَّة. لم يكُن هنالك اختبار مواطنة مثل معرفة اللغة العِبرية أو التربية الوطنية الأولية، فقد افتخرت إسرائيل بنفسها كونها بُوتَقةَ صهرٍ تصوغ هُوِيَّة وطنية جديدة لسائر المهاجرين مهما كانت أصولهم.
لكن كان هناك شرط وحيد، هو تغيير أسماء المهاجرين إلى صياغة يهودية، ضربَ القادة الصهاينة مثلًا. أصبحَ البولندي ديڤيد غرين: ديڤيد بِن غوريون، والروسي موشي شيرتوك: موشي شاريط، والأوكرانية القادمة عبر الولايات المتحدة الأمريكية غولدي ميرسون: غولدا مائير… كان اكتساب الأسماء العِبرية جزءًا من عمليةٍ نظامية ترمي إلى مَحو كل آثار الشتات. مباشرةً، بعد وصولنا تقريبًا، استسلمَ بعض أفراد أسرة شلايم لهذا الضغط. كانت أمه تُدعى مسعودة أو سعيدة باختصار. في إسرائيل، غيَّرتْ برغبتها اسمها إلى عايدة، ليديا أصبحت داليا، اسم ڤيلما بقي بلا تغيير مع أنه اسم أجنبي، هو ليس اسمًا عربيًّا لهذا سُمِح له بالبقاء. أصبح كاتبنا أڤراهام بدلًا من أبراهام، وسيُختصر آڤي بدلًا من آبي.
في المراجعة الصهيونية الرسمية كانت هجرة اليهود الكبرى إنقاذًا: لقد أنقذت الدولة الجديدة يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من البيئة العدائية التي لا سبيل لتغييرها، رحّبَت بهم بذراعين مفتوحتين وأنجزت مهمةً بطولية في استيعاب المهاجرين في ظلّ ظروف عصيبة واستثنائية. يُقال إن هذا كله جزء من تحقيق الحلم الصهيوني المتعلق بـ«جمع المنفيين». كانت إسرائيل، في السردية الصهيونية المهيمنة، لا تزال “أرض المعاد”.
لم يقتنع المهاجرون العراقيون بهذه الأسطورة الصهيونية في المقام الأول؛ لقد شَكُّوا بأن إسرائيل عملت بنشاط وحيوية لاقتلاعهم من بلدهم العربي، وهذا الأمر غذَّى استياءهم من البداية.
ثانيًا، كما يذكر شلايم، كان هؤلاء القادمون الجدد ضحايا الرأي السائد بأنَّ إسرائيل تقدّم لهم خدمةً من خلال احتضانهم في الداخل بعيدًا عن البرد. وصفت الدعاية الإسرائيلية يهود العراق طوال العامين الفائتين بأنهم يواجهون تهديد الإبادة الجسدية على أيدي نظام فاشي. هذه التهمة الملفَّقة كان الهدف منها خدمة حملة إسرائيل ضد العراق في الميدان العالمي، إلا أنها في الوقت نفسه دفعت الجماهير الإسرائيلية إلى الاعتقاد بأنه بينما يجب أن تظلّ أبواب البلاد مفتوحة لهؤلاء المنبوذين سيِّئي الطالع، فإن ثمن استيعابهم سيكون باهظًا. بالتالي، لم يُرحَّب بالعراقيين على اعتبارهم مهاجرین فخورين، بل باعتبارهم لاجئين مَدِينين بدَين ثقيل من العِرفان بالجميل لمنقذيهم. وقد تماشت هذه الصورة مع النظرة الاستعلائية التي طالما أبدتها الحركة الصهيونية تجاه يهود العراق.
ثالثًا، كانت ليهود العراق قيادتهم ومؤسساتهم، وقد وصلوا إلى أبواب أرض المعاد فُرادَی مُفلِسين عاجزين بلا قيادة، تحت رحمة سلطات الإدماج والاستيعاب في الوطن الجديد.
والد المؤرِّخ في البلد الجديد
حين وصل والد آفي شلايم إلى إسرائيل، سرعان ما تلاشت مشاعر الارتياح والسعادة الأوليين لالتئام شمل العائلة، أمام صعوبات تأقلُمه في موطنه الجديد، كانت توجد صعوبات أكبر من تلك التي واجهتها الأم.
كان والده في سنّ الخمسين، ولا يتحدث العبرية، وقد خسر عمله وكان في حالة من الضياع إلى حدٍّ ما، “لاحظت أمي أنه شاخ بصورة واضحة خلال الرحلة الشاقَّة من بغداد إلى إسرائيل”.
كان بعد مدَّةٍ غير طويلة من التئام الشمل السعيد، بدأ كلاهما الابتعاد عن الآخر ويتحركان في دوائر اجتماعية مختلفة. كانت لوالدة آفي دائرتها الخاصة من عراقيي الطبقة العليا الذين تلعب معهم الورق كل ليلة جمعة، فيما كانت لوالده دائرة أصغر من الرجال العراقيين عاثري الحظ ممن لهم مزاج وأفكار مشابهة، تَعوَّدوا أن يلتقوا بمقهى في الهواء الطلق لتبديد الوقت، وارتشاف القهوة التركية، والتدخين والدردشة، إنه شيء شائع بين الرجال في منتصف العمر في دائرة والده أن يتفاخروا بأمجادهم الماضية، وبثروتهم ومنزلتهم الاجتماعية في بغداد.
يشبِّه شلايم والده بالجمل الذي يلجأ إلى سنامه، حين يجترّ أحداث الماضي، لم يكُن والده يتكلم عن الماضي، على الأقلّ بحضور آفي، ولا تَمرَّغَ برثاء الذات. على العكس، كان فخورًا وصبورًا، وقليل الكلام. لكن في أعماقه، كان رجلًا مُحطَّمًا؛ كان يشعر بالغربة تمامًا في البيئة الجديدة، ولم يندمج فيها على الإطلاق، وكان عاجزًا عن التأقلم. على الرغم من صغر سنّ كاتبنا كان يعي جيدًا المأساة التي تتكشف أمام عينه؛ أحس بالتعاطف مع أبيه، الذي جَلَده إحساس غامض بالذنب بسبب انحسار ثرواته المفاجئ للحصول على المال، بذل أبوه مجهودًا كبيرا كي يكسب رزقه في البلد الجديد. باشر في مشروعين تجاريين، انتهى كلاهما بخيبة أمل كبيرة.
فلسطين.. النكبة الأولى: رواية شاهد عيان عربي
من حقّ آفي شلايم أن يصوّر بقلمه البارع معاناة عائلته عن الهجرة إلى إسرائيل، عن رحلتهم الصعبة وأوضاعهم المعيشية المتعبة، ومن حقي ككاتب عربي أن أضع بالتوازي أصوات الضحايا العرب من الفلسطينيين بصورة أوضح، لأن معاناة العائلات اليهودية التي احتلّت فلسطين لا تُقارَن مع مأساة العرب الذين اقتُلعوا من بيوتهم بفعل التهجير والمذابح والقتل.
على سبيل التوثيق، أخذت في قراءة سيرة طبيب مصري اسمه حسان حتحوت كتب مذكرات بعنوان “فلسطين.. النكبة الأولى“، إذ سافر إلى فلسطين وقت النكبة وسجّل في دفتره بعض ما شاهده… يسمع الطبيب المذياع من مصر يعلن عن حفلة تُقِيمها مبرَّة محمد علي في فندق سميراميس، ويكتب في دفتره: “إن مصر تلهو وتعبث، والجو هنا يتنفس بالرصاص ويتهامس بالقنابل…”.
ثم يقول لنا عن فلسطين التي حُرمنا رؤيتها: “الجو جميل ، الريف كالريف في مصر، لكن الجو يفوح بأريج الزهر وعطر البرتقال، جمال ما بعده جمال!” وينهق حمار في الشارع فيكتب في دفتره: “حتى حمير الشام تنهق في نغم شامي، غير هذا الذي في مصر…”.
لقد كان حسان حتحوت شاهد عيان على وحشية الصهاينة وإجرامهم في حقّ أهل البلاد، يذكر الطبيب أن حارسًا فلسطينيًّا أصابته رصاصة صهيونية مرَّت بذراعه وجدار صدره واستقرت بفخذه بعد أن كسرت عظمته. وقام الطبيب فأصلح الأمر واستخرج الرصاصة وجبّس الرجل! إن الصور الجراحية كثيرة كما يقول في مذكراته، والعمل الجراحي كثير، وتمرّ أمامهم أشكال من الإصابات والتشويهات تُجبِر الجَرَّاح على أن يبتكر وعلى أن يكون جرَّاحًا مرتجِلًا كالخطيب المرتجِل؛ ما أشبه مشاهد القتل بما يحصل لأهل غزة بيد الصهاينة، كما حكى الأطباء هناك.
واستقبل الطبيب حسان كثيرًا من النساء والأطفال، الذين لم يتورَّع الصهاينة عن ضربهم برصاص الرشاشات عمدًا ومع سابق إصرار. في أحد الليالي رَوَت لهم امرأة جريحة قصتها، وكيف أن الصهاينة داهموا منزلهم في يافا فقفزت ابنة لها في الثالثة عشرة من الشباك ولم تَدرِ مصيرها بعد ذلك، فهي تتساءل: هل شرَدَت هاربة أم أصابها الصهاينة؟
واستطاعت الأم أن تفرّ مع ابنة في العاشرة، وتبِعَهما زوجها، وسارت الأسرة في الحقول والرصاص والقنابل تتساقط حولها من كل مكان… حتى أُصِيبَ زوجها في ساقه ووقعت الإصابة التي أقعَدَته، فحملته زوجته حينًا ثم تركته بالوادي ومضت هي وابنتها، وراحت القنابل والرصاص تنهش الجوّ حولهما وهي تقول: “يا لطيف الطف!”، ثم أصيبت برصاصة في الأعضاء التناسلية من الخارج! زحفت السيدة من وقت صلاة المغرب حتى وصلت إلى المستشفى في الصباح! ويشهد الطبيب بأن هذه السيدة كانت بطلة متجلدة، ويشهد أنها لكبيرة، ففي النساء في فلسطين بطولة.
ويحكي لنا قصة طفل انفجر فيه لغم فحرق وجهه ودخلت شظاياه بطنه فاخترقت أمعاءه ومزقت أعضاءه التناسلية ومزقت لحم فخذيه شرّ مُمزَّق وأطاحت بيديه جميعًا فذراعاه بلا كفَّين. وأدخله الطبيب العملية، وعز على المريض أن يموت قبل وداع والدَيه. استدعى الطبيب الأسرة، أمَّا والده فبكى وخرج، وأما الأم فقد أفهمها الطبيب خطورة حالته فجزعت، ولكنها ما دخلت عليه غرفة العمليات حتى أخذته بالتشجيع والطمأنة، في بطولة وصبر لم يملك الطبيب حسان معهما إلا أن يُولِيَ الجمع ظهره ويذرف دمعة.
إن عربة الإسعاف التابعة لهم عليها توقيعات من أكثر من ثلاثين رصاصة، إن مستشفى الأمين بحيفا قد هدمته القذائف، إن رشاشات الصهاينة تطاولت على مسجد فضربت المصلِّين فيه وضربت إمامهم فاستُشهدوا جميعًا وهم ساجدون. وقد حضر إليه جنديان مصريان من جنود “مصر الفتاة” الذين كانوا يحاربون في يافا. كان عددهم خمسة وثلاثين، عاد منهم اثنان، يرويان أن الصهاينة كانوا يتصيَّدون من يقع في أيديهم من العرب فيذبحونه بالسكين كما تُذبَح الأنعام! تاريخ هذه الشهادة الأليمة في يوم 3 من شهر مايو عام 1948.
إذا كانت معاناة أسرة شلايم مع البيوت الضيقة والطعام الرديء وصعوبة الاندماج مع اليهود الأشكناز ومحو أصولهم العربية وحياة والده النفسية الصعبة، وأنا هنا لا أقلِّل من هذه الصعوبات، فإنني أريد رؤية الضفة الأخرى من جرائم الصهاينة في نشأة إسرائيل والتطهير العرقي الذي مارسوه على الشعب الفلسطيني، وكما يوضح شلايم تَقدَّمَت الحركة الصهيونية بطريقة استعمارية استيطانية بلا رحمة، أهل فلسطين لم يغادروا بإراداتهم الحرة، بل طُرِدُوا.
الآنسة فيفي
أكتفي بهذا القدر من عرض مذكرات آفي شلايم، التي تضمنت كثيرًا من التأريخ لقضايا هجرة يهود العراق وحكايات عائلته، وأعطت المذكرات صوتًا للنساء في عائلته، إذ أرَّخ لحياة أمه وجَدَّته ونساء العائلة، واعترف شلايم بتَحيُّز والدته له أكثر من شقيقاته الفتيات، وحكى عن صمت والده في سنوات حياته في إسرائيل والانكسار النفسي الذي شعر به في عالمه الجديد.
وفي الحقيقة تبدأ قصة كاتبنا ومذكراته الشخصية في الفصل التاسع، إذ سبق ذلك تأريخ مطول لحياة وجذور عائلته العراقية، والذي نحتاج إليه هو مذكرات لمسيرة المؤرخ وتحولاته الفكرية وعلاقاته مع الكتب والأرشيف والشخصيات التي التقاها مثل الملك حسين، وكتب سيرة لحياته بعنوان “أسد الأردن”، وعلاقاته مع المؤرخين الإسرائيليين وردود فعلهم على ما كتبه، وظروف تأليفه للكتب التاريخية.
تَتضمَّن خاتمة الكتاب فصلًا ممتعًا بعنوان “الآنسة فيفي”، وهو لقب آفي شلايم في جيش الدفاع الإسرائيلي حيث كان يقرأ رواية تحمل هذا الاسم للروائي الفرنسي دي موباسان، أظنّ أننا نحتاج إلى كتاب يكمل متابعة مسيرة الكاتب الفكرية وتجربته الحياتية في إسرائيل ولندن.