مدونات

غزة.. حكاية غرناطة الأخرى

ديسمبر 31, 2024

غزة.. حكاية غرناطة الأخرى

آخر معاقل الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية غرناطة، قاومت جحافل الأسبان بكل ما أوتيت من قوة، في السهول قاومتهم في الجبال وبين الأزقة و من بيت إلى بيت، حتى انتهى بها المطاف في الخفاء بعيداً عن أعين الأعداء، وبقيت جذوة جهادها تشتعل قوة وعزيمة وظلت تناكف الغريب القادم، إلى أن انطفأت شعلتها عند أول غرناطي علق على محرقة التفتيش الحاقدة.


ما أجملك يا غرناطة كنت واحة أمن وسلام للغادي والرائح، صوت العندليب يغرد في أول إشراقة صباح على ربوع رياضك ونوافيرك  الجميلة، يسرح ويمرح حواليك الصغار ويتباهى رجالك بفروسيتهم، وتأخذ الأحاديث المؤنسة النساء وتعانق الجواري نسائم يوم جديد ينعم بها أهل غرناطة بالسلام والطمأنينة، وانتظار آمال وتطلعات مقبلة، تعكس الشمس أشعتها على قصورها الفارهة ويتلألأ النهر بانسيابية مدهشة، لو تتبعه الناظر لسلب لبه قصر الحمراء المبهر كأن به يتربع على سناء الألق، فيقع في النفس عناق الحُسن لأرض غرناطة.


غرناطة أنشودة الطريق إلى الجنة بجميع قراها ونواحيها وضحكات الأمل والبشريات، فترى انغماس أهلها بألوان من الترف والبذخ واللهو..

وعنها قال ابن سفر المريني متغزلا بها:

أنهارها فضة والمسك تربتها 

والخر روضتها والدر حصباء 

وللهواء بها لطف يرق بها 

من لا يرق ويبدو منه أهواء 


فأنساهم عشق روابيها بكاءها الخفي، خشية عيون الطامعين الطامحين لنهبها….فوقعت غرناطة! واستبسل رجالها في الدفاع عنها وصد هجمات الغرباء، حاولوا ثم حاولوا لكنهم في النهاية لم يتمكنوا من دحر العدو وثنيه عن رغبته في انتزاع غرناطة بالقوة من حضن أهلها، تشكلت مجموعات مجاهدة للدفاع عن البقية الباقية من أرض غرناطة، فما أشبه اليوم بالأمس كانت الأندلس ثم أصبحت غرناطة ثم قصر الحمراء.


ومن زعم أن غرناطة لم تقاوم حتى آخر رمق، ومن قال أن غرناطة لم يبكيها أحد، بعد أن استنجدت بالقريب والبعيد والحاضر والغائب، ودموع العذارى وما أدراك ما دموع العذارى أنهكت قلوب المتحسرين على زوال مملكة كانت من أجمل ممالك الإسلام بل العالم آنذاك، رثاها شعراؤها وهم خير من يرثيها:


لا أنت أنت ولا الديار ديار خف الهوى

وتولت الأوطار 

كانت مجاورة الطلول وأهلها زمنا

عذاب الورد فهي بحار 

أيام تدمي عينه تلك الدمى وتقمر 

لبة الأقمار 

إذ لا صدوف ولا كنود اسماهها 

كالمعنيين ولا نوار نوار 


وها هي غزة تروي لغرناطة خذلان القريب وقهر الرجال وذبح الأطفال وترمل النساء، وحرق البشر أحياء، فباتت المنازل غير المنازل، كومة من حجارة وركام فوق ركام، رائحة الموت في كل بقعة، كل أنواع العذاب صب فوق رأسها لتجوع وتعطش ويقتل أطفالها تقتيلاً وكأنها حرب شنت عليهم قصدا، لم يعد يشبهها شيء سوى الجحيم، وقد صارت الجحيم بعينه، وما بال رجالها ما استكانوا ولا جبنوا عن نصرتها يذوقون ما يذوق أهلها من غبن وظلم وتجاهل، لكنهم شجعان يذودون عنها بكل ما أوتوا من قوة، إرادتهم تسع الدنيا وما فيها، لو وهبوا القوة العادلة لاقتلعوا الجبال من أساسها، لا يملون ولا يسأمون وهم يتفرسون في أحداث الماضي. تمر قصة غرناطة ومرويات القوم عن حالها وقت سطوة العدو عليها، فتزيدهم قوة وصبرا وتجلدا، يقاومون بكل ما تجود عليهم أرض غزة من قوة وبأس، الحتف يحيط بهم من كل ناحية وفي كل لحظة تماماً كغرناطة وقتذاك، لكن غرناطة حكاية جميلة وانتهت، أما غزة فواقع يرسم مجد أمة، مُذْهلون أولئك البواسل لسان حال غرناطة، لا يشبههم أحد ، وضعوا حياتهم على أكفهم، يقاتلون بلحمهم ودمهم، يالشجاعتهم، أمم الشر تآمرت عليهم واجتمعت لسحقهم، لكنهم أعزاء أباة لا يضيرهم طغيانها، ذنبهم أنهم أهل حق انتفضوا لدفع الأعداء الذين جاسوا ديارهم، ألمهم أعظم وأقسى مما كان من الأقيال والأنذال.


وهي الآن تقاتل وحدها يسومها الغزاة المر والهوان، لكنها مازالت صامدة شوكة في عين الكائدين لها، صبرت وتصابرت ورابطت، وأهلها يذبحون من الوريد إلى الوريد.


خذلان غزة هو ذاته خذلان غرناطة، تركت وحيدة يتقاذفها الهوان والانكسار، تنكر لها البشر خانوا أحلامها وأبقوها حبيسة الوحشة والاغتراب، سكنها الخوف أجيالاً وأجيال، نزفت كثيراً وجف الدم على جراحها، فما وجدت من يداوي جرحها ويمسح دمعها، غير غزة تضاهيها حزناً تواسيها في مصابها علها تخفف عنها ألم النوى وعذاب الشوق لأهلها.


فانتصارها هو انتصار لغرناطة، والانتصار تراكم تضحيات قديمة جديدة، تضحيات رجال غرناطة وبطولات غزة، تتلاقى لتضرب موعداً لبزوغ فجر أمة كانت في يوم ذات حضارة إنسانية عريقة،  وغزة في صمودها وصبرها وجهادها، جوهر أملها والنور الذي سيهدي الأمة إلى بر العلا والسناء، وفي ذلك ينشد شاعرنا بالقول:


إن سألوك عن غزة قل لهم بها شهيد، يسعفه شهيد، يصوره شهيد، ويودعه شهيد ويصلي عليه شهيد.


فما انكسرت غزة هاشم يوماً ما، وماضي في قهر أعداءها، وسيجبر المولى كسرها، وستنهض رغم آلامها وستأخذ بيد غرناطة، لم لا؟ فغزة تسجل عودة أمة عظيمة لن تغيب شمس عزها أبدا، وحسبنا قول الشاعر:


ليست غزة أجمل المدن 

ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية 

وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض 

وليست غزة أغنى المدن

وليست أرقى المدن وليست أكبر المدن

ولكنها تعادل تاريخ أمة 


والآن غزة تقترب من الانعتاق من عبودية الغازي، انعتاق من الضعف والقهر، لتغدو حرة طليقة وسط عالم مليء بالعبودية، وستهدي حريتها سراجاً يضيء قلب غرناطة التي ترزح وما زالت تحت نار الاسترقاق ردحاً طويلاً من الزمن، لنيل حريتها وكسر الأغلال عنها، لتعود عروس ديار الإسلام.


شارك

مقالات ذات صلة