مدونات

الإفلاس الأخلاقي: انهيار المبادئ في السياسة

ديسمبر 30, 2024

الإفلاس الأخلاقي: انهيار المبادئ في السياسة

الكاتب: عبدالعزيز مبارك

 

 “لقد مُحي الماضي، ونُسي المحو، وأصبحت الكذبة حقيقة”. – جورج أورويل، رواية 1984.


 يعكس هذا الاقتباس المرعب التدهور الأخلاقي والنفاق السياسي اللذين أصبحا شائعين في عصرنا. فالسياسيون الذين عارضوا بشدة شخصيات أو أفكارًا معينة في الماضي، أصبحوا اليوم يحتضنونها بسهولة لتحقيق المكاسب أو تعزيز سلطتهم. هذه التناقضات الصارخة ليست مجرد خيانة للمبادئ، بل هي تجسيد لما لا يمكن وصفه إلا بالإفلاس الأخلاقي.


 نفاق السياسيين


النفاق السياسي، أي الادعاء بالقيم والمعتقدات دون الالتزام بها فعليًا، هو أبرز مظاهر الإفلاس الأخلاقي. فالسياسيون عادة ما يمارسون “الازدواجية” باستمرار، حيث يقولون شيئًا للحصول على دعم شعبي ثم يفعلون عكسه في الخفاء. هذا السلوك، الذي يذكرنا بـ”التفكير المزدوج” لجورج أورويل، يتيح للقادة تبرير تناقضاتهم بحجة البراغماتية أو الضرورة.

 من الأمثلة البارزة على ذلك تبديل القادة السياسيين ولاءاتهم ومبادئهم حسب تغير موازين القوة. أشار الفلاسفة إلى هذا الاتجاه منذ زمن طويل. فمثلًا، أكّد أرسطو في كتابه السياسة أن استقرار الحكومة يعتمد على فضيلة حكامها ونزاهتهم. ومع ذلك، يبدو أن هذه الحكمة تُهمل في العصر الحديث، حيث يتخلى السياسيون عن مبادئهم، ويستخدمون التضليل للتلاعب بالرأي العام، مستغلين قصر ذاكرة الجماهير وولاءهم الحزبي لتجنب المساءلة.

 هذا النفاق يزعزع الثقة في الحكم، ويحيل النقاش العام إلى مجرد مسرحية. في كثير من الأحيان، يبرر القادة الذين دافعوا عن القيم الديمقراطية خيانة هذه القيم بحجة الحفاظ على الاستقرار، مما يعزز ثقافة الخداع.


 تأثير الفلسفة المكيافيلية


يُعتبر كتاب الأمير لنيكولو مكيافيلي بمثابة مخطط فلسفي للبراغماتية السياسية. فمقولته الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة” استُغلت كذريعة للتنازل الأخلاقي في سبيل تحقيق السلطة. وعلى الرغم من أن عمل مكيافيلي معقد ويركز على تعقيدات القيادة، إلا أن إساءة تفسيره ألهمت قادة يبررون السلوك غير الأخلاقي كشر ضروري. تشير الفلسفة الميكافيلية إلى أن الحكام قد يضطرون أحيانًا لاستخدام الخداع والتلاعب وحتى القسوة للحفاظ على مناصبهم. وهذا يظهر جليًا في السياسة الحديثة، حيث تُفضل المكاسب السياسية السريعة على الاعتبارات الأخلاقية طويلة المدى. هذا السلوك لا يضر فقط بثقة الجمهور، بل يغرس رؤية ساخرة للقيادة، حيث يصبح خيانة القيم متوقعة ومقبولة.


 الإفلاس الأخلاقي بين المثقفين والفنانين


في السياق السوري، يُعد تحول مواقف بعض المثقفين والفنانين نموذجًا آخر للإفلاس الأخلاقي، حيث انتقلوا من تمجيد الطاغية بشار الأسد إلى تهنئة “الفتح المبين” لقوى المعارضة الشعبية، مما يبرز تناقضًا صارخًا يدعو للتساؤل. هل هذا التحول استجابة للجماهيرية والضغوط الاجتماعية؟ أم أنه تعبير عن براغماتية مفرطة تُوجهها المصالح الشخصية؟ أياً كان السبب، فإنه يفتح الباب للتفكير في احتمالية تبدلهم مجددًا، ربما حتى ضد الثورة، إذا ظهرت لهم مصلحة جديدة تقول لهم “هيت لك”.

 مثل هذه المواقف ليست مجرد تغيرات سطحية، بل تعكس فقدانًا واضحًا للبوصلة الأخلاقية تحت ضغط الظروف والمكاسب الآنية، مما يجعل الولاءات عرضة للتغير مع الرياح، دون أي اعتبار للقيم أو المبادئ التي يدّعون التمسك بها. دعوة لإحياء الأخلاق يتطلب تآكل النزاهة الأخلاقية في السياسة والثقافة إحياءً أخلاقيًا شاملاً يستند إلى التقاليد الفلسفية والقيم الثقافية. يجب أن يخضع القادة والمثقفون لمعايير أعلى من المحاسبة، مستفيدين من الإرث الفكري للأخلاقيات السياسية لإعادة بناء الثقة والمسؤولية.

 يؤكد الدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاقيات السياسية، أن النجاح الحقيقي للقادة لا يُقاس بمدى تعزيز السلطة، بل بقدرتهم على الحكم بعدالة ونزاهة. فغياب البوصلة الأخلاقية يؤدي إلى تدهور المجتمع.

 وفي ذات السياق، تقدم نظرية العدالة لجون رولز نموذجًا للحكم الأخلاقي قائمًا على الإنصاف والمساواة. يدعو رولز إلى اتخاذ القرارات السياسية من موقع “الموقف الأصلي”، حيث يضع القادة تحيزاتهم جانبًا لتحقيق المصلحة العامة.


 خاتمة


 الإفلاس الأخلاقي الذي نشهده اليوم، سواء في السياسة أو بين المثقفين والفنانين، يعكس خطورة الانتهازية غير المقيدة. ومع ذلك، فإن التاريخ والفلسفة يمنحاننا الأدوات لمواجهة هذه التحديات. القادة والمثقفون الذين يلتزمون بالمبادئ الأخلاقية يمكنهم رسم طريق نحو نظام أكثر عدالة ومصداقية. إنها دعوة لجميع الأطراف لتحمل المسؤولية، مطالبين بعودة النزاهة، وضمان أن تخدم السياسة والثقافة الحقيقة والعدالة، لا المصالح الضيقة.



شارك

مقالات ذات صلة