سياسة

دكتور حسام أبو صفية.. ما لم يقسم عليه أبقراط!

ديسمبر 29, 2024

دكتور حسام أبو صفية.. ما لم يقسم عليه أبقراط!


حين أراد أبقراط وضع قواعد تأسيسية في الطب، وخلدّ الأطباء من بعده قسمًا يحمل اسمه، ليكون بمثابة ميثاق يقدس أخلاقيات للمهنة إلى أن صار عرفًا يكاد الطبيب لا يتخرج من دون القسم عليه- لم يكن في بال أبقراط نفسه ولا في بال الذين خلدوا اسمه من بعده، أن مهمةً من مهامهم، وخلقا من أخلاقهم، سيكون مواجهة الدبابات والجنود المدججين بالسلاح وطائرات الكواد كابتر وبراميل المتفجرات وغدرة القناصة بالمعطف الأبيض، أو حماية مرضاهم من جراحهم النازفة، وجراح أمتهم، معًا، أو الصمود على جوع وعطش وفقد وحصار داخل مستشفى يحترق يوما بعد يوم، ويتآكل من الجدران والإنسان، فتتهاوى بناياته حجرا حجرا، ويقتل سكانه واحدا تلو الآخر، بغض النظر عن لون المعطف الذي يرتدونه، من صوف، أو نايلون، أو قماش أبيض، فالكفن لا يفرق بين هذا وذاك، إن وجد الكفن، وخبر الموت لا يميّز في صيغته بين اثنين قتلهما الاحتلال في مستشفى.


لم يكن يتخيل أي طبيب في الدنيا أخلاقيات المهنة التي يقسم عليها عند تخرجه، في أبهى حلة، أن تتعدى اختبارات لمبادئه أقصاها الإضرار بمريض، أو إفشاء سريته وجرح خصوصيته، أو كتابة علاج غير مأمون العواقب، أو التخلف عند ساعة النداء والواجب، أو التقاعس عن مريض ولو كان مفقودا الأمل في شفائه، كلها كانت تحديات كبيرة للشرف مع مرور الوقت؛ لكن أحدًا لم يتخيل أن تحديات كبرى حقيقية لن ينص عليها قسم أبقراط ولا ألف يمين بأي أحد، مثل إدارة معركة دامية مدمرة، بيدين بيضاوين، أمام الجيش الأكثر لا أخلاقية في العالم، ومناشدة العالم نفسه بكل أخلاقيات الإنسان طيلة خمسمائة يوم من الإبادة ومائة يوم من الحصار المطبق دون صدى، وفقدان الابن شهيدًا بيد العدوّ الذي تحول بروحك بينه وبين مرضاك، لتكون رسالةً بتغيير المسار، ولا تتغير، والإصابة والنجاة من الموت بأعجوبة مرات ومرات، والجوع الذي ينهش اللحم وينخر العظام، دون تسليم؛ فأي أبقراط في الكون يمكنه وضع أسس لأخلاق كهذه؟ وأي أبقراط قادر على أن يضع أسسا للشرف وللطب معًا، كأبي صفية؟


ربما في ذلك الزمان البعيد، قبل بدء الميلاد بنحو أربعة قرون، لم تكن أمراض العالم أكثر من تلك التي عرفها العلم منذ وقتها إلى الآن، ولا يعجز عن تشخيصها في أغلب الأحوال، فكانت أقصى مخاطره أن يخون الطبيب ثقة مريضه، لكن مرض اليوم أكبر بكثير، ولن يستطيع العلم تشخيصه، مثل أن تخون أمة سقيمة بالكامل طبيبها، وأن يخون الجيران بيتا مكتظا بالجرحى، وأن يصم العالم بسمّاعاته الطبية أذنيه عن سماع الصرخات والمناشدة، بدلا من سماع نبضهم المتباطئ، وأن تحاصر المستشفى فينتظر الحكام سقوطها حتى يصدروا بيان الإدانة مرةً واحدةً دون تكرار يخلّ بالشجب، ويقويه.


لكننا اليوم، مع نوع آخر من خارج المنهج، وأبٍ للطب لم يرد على قسْم ولا قسَم، رغم بشريته الكاملة، التي لا يحق لأحد سلبها منه، فهو الرجل المفارق لبيته وأهله على وجع وقلق وشقاء، وهو الأب الفاقد لابنه على اشتياق واحتراق وغصة، وهو الطبيب الآسف على مرضاه على عجز وخوف وحرقة، وهو المدير الحزين على زملائه على فراق وصبر ووداع، وهو القائد الناقم على العالم على نداء واستغاثة وغضب. 


لكنه على ذلكم كله هو الطبيب الذي لم يخلع رداءه لينجو، أو يدع معطفه ليعبر، وإنما مضى من أول القصة إلى آخرها، بثوب واحد لم يبدله، فكان جزءًا من جِلده، وسرا في جَلده، التفصيلة الأهم في الحكاية، الذين أرادوا لها فصولا غير هذه، حتى لحظة الخروج الأخير من المستشفى في وجه الدبابات، بعدما عاجلته هي بالاقتحام، كان فيها بكامل حلته، يحمل معانيه الإنسانية والدينية والأخلاقية والوطنية والمهنية في جيبي معطفه الأبيض، الذي تخضب بالدماء، بما فيها دماؤه شخصيا، مرفوع الهامة، وإن ارتعد قلبه، وتشتت ذهنه، لكن صدره من تحت المعطف بدا متيقنًا بالله، حاملًا مزيجًا عجيبا بين ازدراء الخاذلين وتعظيم الناصر.


لم يقسم الدكتور أبو صفية على شيء من هذا، لم يكن ليعيبه أن يمضي منذ أول يوم بعد أداء واجبه، أو بعد فقد أحبابه، أو بعد توديع رفاقه، أو بعد تشتت أهله، أو بعد فقد ولده، أو بعد قصف مستشفاه، أو بعد قنص مرضاه، أو بعد موت جرحاه، أو بعد إصابته هو، أو بعد أي مرحلة من مراحل التصعيد بحقه، مستهدفين همته وعزمه ومروءته، لم يكن ليعيبه أي انصراف أو مغادرة، ويكفي أهل غزة البقاء فيها وحسب، ونقطة، ولكنه كان أكبر من حجمه الذي نراه بكثير، لا جبلا يحمي ولا جملا يحمل، وإنما إنسان كبير، بكل ما للإنسان من معنى، وبكل ما للكبَر من معنى، ليضع قسما جديد في الطب، وقسما جديدا للأطباء، تتوحد فيه الكسرة والفتحة والسكون في حركة واحدة، وتحت اسم واحد، اسمه “قسم أبو صفية”.


شارك

مقالات ذات صلة