سياسة
أنظر اليوم إلى الاقتصاد المصري المنتهك، والمعروض على قارعة الطريق للبيع والانتفاع والجار الأولى بالشفعة وبلا شفيع في سرعة مخيف، وأحزن. بيع أصول الدولة وتاريخها وحتى عظام وجبانات عظمائها للعرض والطلب وثقافة الأسنان الصفراء والأيادي الممدودة للاستهلاك والمادية غير الجدلية والبلع دون استطعام. أظننا سندرك فداحة خسائرنا والفقد المفجع حين يختفي النخاس بلا رجعة. أستعين على مقالي بعدد من الرؤى البحثية المتخصصة وأنف طويلة لصحفية شديدة الحساسية للفسدة والفساد.
بداية لا يمكننا تقويم مشروع أبو الاقتصاد المصري طلعت باشا حرب دون التدقيق شديدا في مشروعه – للإسقاط على الحاضر – من دون النظر إلى سياقه في زمن لا يشبه واقعنا إلا من حيث الإفراط في الاستدانة قبل دولة يوليو بحقبتين في الخديوية الإسماعيلية. تحت وطأة الاستدانة تنتفي السيادة الوطنية لارتباط القرارات السيادية إلا بما يملِي المُقرض/المستعمر/المحتل. المشهد ليس غرائبيا عنا اليوم. سقط النظام الحالي عن علم في فخ ”الدَولرة“ كما سقط طلعت باشا حرب رغما عنه في ”سترلنة“ المشروع الوطني مع الاختلاف البيّن للمشروعين والمستهدف من كليهما. لا أفتش في النوايا قطعا، وإنما أبدأ من ظرف يخنق ما حققه بالفعل، الرأسمالية الوطنية بهامش أجنبي كان مرغما عليه طلعت حرب لينجو بمشروعه، بينما سقط بالكامل فيه مشروع السلطة الحالية والمؤسسة العسكرية المصرية النقدي والراعي، الذي يرتشفه المواطن رشفة رشفة بمنتهى الإذلال والمعاناة تحت ستار المشروع الرأسمالي التشاركي الوطني بين المؤسسة والموازنة العامة للدولة لبناء “الجمهورية الجديدة”.
أرى ولست وحدي في هذه الرؤية المبنية على شواهد ودلائل وظرف أو حتى مشروع بين مراكز القوى الدولية والوضع المصريّ شديد الهشاشة الآن تحت خدمة الدين، التي لم نعد نستطيع سدادها حتى لو دفع لنا الطرف هذا أو ذاك مليار دولارٍ كل شهر، ستذهب كلها لخدمة الدين، وللمؤسسة العسكرية ولرصف الطرق وبناء القصور وهدم قبورنا وقبور أهالينا فوق رؤوسنا. انحيازات هذه الدولة ليست لنا، قولا واحدا، لم تكن أبدا لنا. لمشروعها منذ البداية، لها ومؤسستها ول ”أصدقائها“ في المنطقة. تصدى لرأس هذه الدولة أحمد الطنطاوي فحُبس، تصدى لفساد هذه الدولة الدكتور يحيى القزاز فتربصت به وبعائلته رؤوسُ السلطة فيها حتى قضى قهرا قبل أيام، تصدى للفساد فيها آنفا ولاحقا المهندس يحيى حسين عبد الهادي فحُبس، الدكتور عبد الخالق فاروق أكاديميا فحبس، أحدثكم عن ستة أشهر فقط مرت من تفضلكم بقراءة هذا المقال ، مثلهم عشرات الآلاف من معتقلي الرأي والضمير – خيرة الصفوة حاولوا التصدي لهذا المشروع الاقتصادي المنهار للعيان، الذي ابتلينا به قبل عشر سنوات فأتى على كل شيء حرفيا، حتى الشجر والجبانات لم تسلم. أقول إن الانحيازات الاجتماعية للسلطة الحالية تنبئ بإرهاصات انتفاضة قادمة قد تدار من أي اتجاه كان، لا يمكن التنبؤ بذلك فورا. ما يجري في سورية على الرغم على عدم تطابق الحالتين قطعيا، إلا أنها حالةٌ موحيةٌ جدا وتستحق الترقب.
حين ارتبطت السياسات النقدية المصرية بالجنيه الاسترليني وسيطر على نقد القطاع المصرفي الأجانب، أشار طلعت حرب لربط العملتين بالقول:“ ولا نتكلم اليوم عن إصدار البنكنوت وكيفية تغطيته، ولا عن عملتنا وكيف أصبحت تابعة للجنيه الاسترليني متى هبطت بهبوطه، مع أن كفة ميزان التجارة في مصلحتنا“. ذهب الكاتب محمد جاد ضمن نخبة كتاب قيموا تجربة طلعت حرب في كتاب ”ماذا جرى لمشروع طلعت حرب؟“ إلى التضخم في بريطانيا في عام ١٩٢٠ بفضل ارتفاع بورصة القطن، ما أفضى بالتبعية إلى تحقيق فائض تجاري سماه جاد ”ملمحا مبكرا للمشكلات الكبرى التي ستقع فيها مصر بسبب هذا الارتباط”.
ذهبتُ لمثال الرأسمالية الوطنية في تلك الحقبة تحديدا لأن دولة يوليو آنفا رأت في تكريم منشئه طلعت حرب مع اختلافه مبدئيا عن مشروعها ”الاشتراكي“ – ربطت دولة يوليو حركات التحرر الوطني ومشروعها النقدي بمشروع صناعي ضخم روجت لاستقلاله عن جنون سلال العملات الغربية خاصة الانفلات الحر من الهيمنة الإمبريالية الأمريكية. لكن السقوط العسكري والسياسي المدوي في ١٩٦٧ أخضع الدولة حتى في أزهى سنواتها (حرب الاستنزاف) للسياق الدولي اقتصاديا حتى خضعت كاملة في سياستي الانفتاح ثم الخصخصة في العهدين التاليين، لتجيء انتفاضة يناير ٢٠١١ وإرثها كاملا تحت جناحي الدولة العميقة (المخابرات ورجال الأعمال والمؤسسة العسكرية).
على الرغم من الاضطراب الشديد في نظام النقد الدولي بسبب الحرب العالمية الأولى، كاد لمصر أن تستقر ماليا محليا بسبب فائض الإنتاج لو كانت بورصة القطن لمصر محررة من الاستدانة والهيمنة الاستعمارية. أول أوجه القصور لمشروع طلعت حرب الرائد كان ”لمن اليد الطولى في فائض الإنتاج وسعر النقد؟ هل هيمنة جهات الإقراض و“الاستعمار“ اليوم هي ذات الهيمنة التي فرضت على بورصة القطن آنذاك؟ أظن كل لبيب بالإشارة يفهمُ.
الجزء القادم – إن عشنا – أكتب عن أوجه الاستثمار وأولويات التنمية.