مدونات

التأقلم.. ما بين حياة المدينة والنزوح في السودان

ديسمبر 26, 2024

التأقلم.. ما بين حياة المدينة والنزوح في السودان

الكاتبة: أمامة حسن عبدالله

 

استيقظتُ ذات صباحٍ على صوت الديك وهو يعلن بدء يوم جديد، لم يؤثر ذلك فيّ ونهضت لأبدأ يومي، لكن بعد ثوانٍ تنبهت لكون هذا الأمر أصبح معتادًا لدي لدرجة لم استغرب كوني استيقظت بسبب الديك وليس بسبب منبه هاتفي المعتاد.


 فجأة تغيرت أحوال الكثيرين من أولئك الذين كانوا يقطنون ولاية الخرطوم، أجبرتهم الحرب لكي يخرجوا من بيوتهم التي عاشوا فيها أغلب حياتهم بحثًا عن الأمن المفقود فتوجهت أعداد لا يستهان بها إلى خارج البلاد في رحلة اغتراب إجبارية تحت غطاء اللجوء، بينما توجهت الغالبية العظمى إلى مناطق جذورهم في القرى والولايات الآمنة.


جزء منهم كان يواظب على زيارة قراهم وأهاليهم في الأعياد والمناسبات فكان هذا النزوح والتأقلم الذي يليه أقل صعوبة لهم من غيرهم، أما البعض الآخر والذي لم يكن لديه الكثير مما يربطه بقراهم الأصلية سواء بسبب انتقال أغلب أهاليهم وأقربائهم إلى المدن الكبرى أو لطول فترات الغياب، كانت فترة التأقلم لديهم أصعب من غيرهم فنمط الحياة الذي تسير عليه هذه القرى يختلف عن ذلك الذي يتواجد في المدن الكبرى، وهذا هو الأمر المعتاد في كل مكان على أي حال.


 لكن الكثيرين قبل بدء الحرب كانوا يرون في مدينة الخرطوم قرية كبيرة وحسب حيث لا يمكن مقارنة الخرطوم بالعواصم العربية الأخرى والكثير من العواصم الأفريقية أيضًا، وذلك لكونها كانت تعاني ضعف في البنى التحتية وسوء في الخدمات العامة وغلاء في الأسعار وغيرها من العيوب التي لا ترفعها ضمن المدن والعواصم التي ينصح بالعيش فيها، لكنها ونتيجة لسياسة مركزية التنمية المتبعة كانت قبلة لسكان الولايات المجاورة يقبل إليها الطلاب للدراسة الجامعية وللبحث عن عمل من بعدها، ويأتي إليها المرضى للعلاج في مستشفياتها إذ احتضنت ولاية الخرطوم الجامعات الكبرى في البلاد وحوت مستشفيات بكل التخصصات وبوفرة في الأخصائيين والمعالجين، فكان سكان الولاية مكتفين ذاتيًا دون الحاجة للانتقال لمكان آخر اللهم إلا السفر خارج البلاد.


 وفي الظروف التي تلت الحرب والمصاعب المعيشية التابعة لها كانت تحديات التأقلم في البيئة الجديدة تمثل جزاءً لا يستهان به من المصاعب اليومية للمواطنين، فذلك الذي قادت به الظروف إلى القرى الطرفية لم يعد يتمتع بالبنى التحتية التي تكفي لتشغيل المجتمع والخدمات والمرافق اللازمة لكي يعمل الاقتصاد، هذا غير العادات والتقاليد التي يمكن اعتبارها متشددة مقارنة بتلك في الخرطوم.


حيث كان على الكثير من الموظفين إحداث تغيير في مسارهم المهني إلى مجالات الزراعة والصناعات الغذائية البسيطة والتي تمثل أغلب فرص العمل في مناطق مختلفة من البلاد، ونظرًا لصعوبة توفر مدخلات الإنتاج كان عليهم البدء من الصفر في مجالات عدة والسعي وراء الإدارات المحلية لتوفير المستلزمات التي يجب على الحكومات المحلية توفيرها وذلك لكي يحظوا بما يساعدهم على البدء وحسب.


 ذلك في المجالات العملية والتغيرات التي مر بها الرجال بالتحديد أما بما يتعلق بالنساء فهناك تحديات إضافية مرت بها العديد من النساء في بعض المناطق والقرى التي ما يزال عمل المرأة بل ولنقل حتى تعليمها يمثل محظورًا يصعب كسره، فعلى عكس الخرطوم والمدن الكبرى في السودان ما يزال عمل النساء صعبًا في الكثير من المناطق وتنحصر الوظائف المتاحة لهن في مجالات معينة قد لا يكون غريبًا تواجد النساء فيها، وذلك مما دفع للكثيرات للتحول للعمل الخاص وإنتاج ما يستطعن إنتاجه من منتجات النساء عمومًا والمنتجات الغذائية من داخل بيوتهن.


 فتجد بعد تجاوز كل ذلك أن مهمة التأقلم تصبح أسهل ما إن يفهم الفرد الطبيعة التي تحيط به ويتعرف على متطلبات العيش الجديدة، فذلك الذي كان يركب المواصلات العامة أو سيارته الخاصة لعمله قد تجده الآن يركب عربة يجرها حمار والتي نسميها بالكارو، وذلك الذي اعتاد تناول طعامه في المطاعم ستجده الآن يأكل الطعام الشعبي في كامل وجباته وبشكل يومي، وتلك التي اعتادت شراء مستحضرات العناية والتجميل بماركاتها العالمية ربما توجهت لتلك المصنوعة محليًا من قِبل نازحات مثلها بمكونات محلية طبيعية أكثر ثراءً وفائدة، وحتى الأطفال الذين كانت هواتفهم والإنترنت يمثلان متعتهم الأولى تعلموا الخروج للعلب في ألعاب جماعية مختلفة.


 ومع اختلاف التجارب باختلاف المناطق والأشخاص نتفق جميعًا أن المرحلة ما بعد الحرب مثلت تحديًا كبيرًا للجميع، لأولئك الذين لجأوا لخارج البلاد وأولئك الذين نزحوا داخليَا، ومع كل الصعوبات التي مررنا بها سنجد أنفسنا في لحظة قد استيقظنا على صوت الديك معتادين على ذلك كأنه ما عشناه طوال حياتنا، فالحمد لله على نعمة التعود والتخطي والتجاوز والتناسي، الحمد لله على كل فترة استصعبناها ومرّت.


شارك

مقالات ذات صلة