مدونات

شبح الورقة البيضاء: خيانة العقل أم اعتزال طوعي؟

ديسمبر 23, 2024

شبح الورقة البيضاء: خيانة العقل أم اعتزال طوعي؟

الكاتبة: فاطمة الزهراء حبيدة

 

لا يخفى تأثير “الورقة البيضاء” على مسألة التخطيط الزمني للكتابة، فعند اختياري لكتابة التدوينات بشكل منتظم، كنت أضع في الحسبان أنه سيحين وقت ما، وأجد نفسي أمام ورقة بيضاء، وسيكون حينها من الصعب الاستمرار بنفس الوتيرة، ففي كثير من الاحيان يمكن للكتابة أن تنطلق بأفكار مبعثرة، وكلمات متناثرة، وذهن مشوش، فكيف يمكن أن أجعل من هذه المعضلة موضوعا لتدوينتي؟ كيف يمكن للمدون أو الكاتب أن يواجه مرحلة الاعتلال الفكري؟ وعدم القدرة على تكوين أفكار وعلى كتابة سطور متناسقة، كيف يمكن تحويل هذا العائق إلى نقطة قوة، وكيف واجهه الروائيين والكتاب؟ كيف كانت طقوسهم للخروج من هذا النوع من العقم الفكري؟ خصوصا عندما تكون المهنة الملازمة للمرء هي الكتابة.

كنا ولازلنا كطلاب باحثين؛ نتخوف كثيرا من أن تطالنا لعنة “الورقة البيضاء”، سواء عند اجتياز الامتحانات، أو عند تحرير مقال أكاديمي، أو عند تحرير رسالة الماجستير أو الدكتوراه، هذا الشبح الذي لابد أن يصادفه المرء في مساره، إما في بداياته، وهو أمر محمود نوعا ما، لكون البدايات دائما ما تصاحبها تعثرات فكرية، لكن ما يجعل هذه الظاهرة تلقى اهتماما خاصا، أن حتى من تمرسوا على الكتابة واحترفوا أبجدياتها؛ واجههم شبح الورقة البيضاء، مما يجعل من هذه الظاهرة لا ترتبط فقط بمدى احترافية الكاتب في صقله للحروف ومجاورته للكلمات، بل تتداخل فيها عوامل أخرى ربما تكون شخصية، أو مهنية أو شعورية.

الورقة البيضاء أو انسداد الأفق الإبداعي من منظور علم النفس:

لقيت ظاهرة “انسداد الأفق الإبداعي” أهمية خاصة من قبل المتخصصين في علم النفس، فكما تمت الإشارة في التدوينة السابقة والتي تحمل عنوان “خصومات الادباء: عقد نفسية واتهامات بالسرقة الأدبية”، إلى أهمية التحليل النفسي الادبي، الذي يقارب الطباع النفسية للكُتاب انطلاقا من كتاباتهم، فكذلك تم تحليل انسداد الأفق الابداعي من منظور الطب النفسي، انطلاقا من عدة دراسات منها: “عندما لا يستطيع الكاتب الكتابة: دراسات حول مشكلة عدم القدرة على الكتابة وغيرها من مشاكل التأليف” وهو كتاب صادر سنة 1985، يتضمن مجموعة من المساهمات العلمية تفصل في أسباب الانحباس الإبداعي من منظور مختصين في علم النفس، وكذلك كتاب “أزمة منتصف الليل: الدافع إلى الكتابة وانسداد الأفق الإبداعي والدماغ الإبداعي (2004)” لألس ويفر فليرتي Alice Weaver Flaherty وهي طبيبة أعصاب أمريكية، بسطت في كتابها الارتباط بين طب الاعصاب والادب، كما تناولت كذلك ظاهرة فرط الكتابة، بالإضافة إلى مجموعة من الدراسات الأخرى كدراسة rosanne bane تحت عنوان: “دماغ الكاتب: ما يخبرنا به علم الاعصاب عن تدريس الكتابة الإبداعية” (2010).

في نفس السياق؛ يعد “إدموند بيرغلر Edmund bergler” من اوائل رواد علم النفس اللذين درسوا “انسداد الافقي الإبداعي لدى الكتاب”، وتناول ذلك في دراسته التي تحمل عنوان: “هل سدة الكاتب موجودة؟” سنة 1950، وأعطى تحليلا مفصلا لمختلف المغالطات التي تحيط بهذه الظاهرة، وأشار ادموند بيرغلر أنه ابتكر مصطلح “انسداد الأفق الإبداعي” في عشرات الدراسات أجريت على الكُتاب لما يقارب عشرين عاما، واعتبر أن الانسداد الإبداعي عبارة عن “مرض / اضطرابعصبي”، وقام من خلال دراسته بتوضيح المغالطات التي تحيط بهذا الاضطراب، وأولها: أن فقدان القدرة على الكتابة يرتبط بضعف الموهبة، في حين أن الوضع مخالف لذلك بل حتى أكثر الكتاب موهبة واحترافا للكتابة يصيبهم هذا النوع من “البلوك الفكري”.

المغالطة الثانية وهي نظرية انسداد “الناشر” أي أن الكاتب لا يعاني من انسداد بل الناشر هو المسؤول عن بقاء الاعمال في الصندوق دون أن ترى النور، ووُصفت هذه المغالطة “بالسخيفة”، أما المغالطة الثالثة وهي نظرية الاستنزاف أي أن قدرة الكاتب تبقى محدودة في انتاج عمل واحد فقط.

بخصوص المغالطة الرابعة فتتمثل في “نظرية السباك” أي تشبيه حالة عدم القدرة على الكتابة بالسباك الذي ينسى عدته عند شرود ذهنه، وتنطلق هذه المغالطة من فرضية تتجلى في أن الكاتب لا يكون مركزا بشكل جيد لكي ينتج؛ وينسى أهم عدة له وهي حضور الذهن، واعتبر أتباع هذا الاتجاه أنه “اذا كانت حالة انسداد الأفق الإبداعي تستدعي تحليلا نفسيا فيجب القيام بذلك أيضا مع السباك” لكن أكد بيرغلر أن هذه المقارنة لا معنى لها.

المغالطة الخامسة: وهي نظرية “صداع الكحول”، حيث يعتبر رواد هذا التوجه أن انسداد الأفق الإبداعي مثل صداع الكحول، في حين تمركزت المغالطة السادسة أن الكاتب يكتب بدافع البيع؛ وبمجرد تحقيق ذلك يتخاذل في الكتابة مرة ثانية، لكن عزز بيرغلر رأيه بأن الكاتب الحقيقي يستمر بالكتابة سواء كان منتجه قابلا للبيع، أم لا.

المغالطة السابعة: وهي “الكسل الواضح”، أي أن نظرية انسداد الأفق الإبداعي لدى الكاتب ناتجة عن استسلامه لكسله، أما المغالطة الثامنة وهي نظرية “أنا أيضا”، حيث تزعم مجلة “تايم” أن تحليل بيرغلر أشبه: “بوصفات الشفاء الهندية”، والتي من خلالها يمكن لأي كان أن “يصبح كاتبا”، لكن هذه النظرية بخست كثيرا من طرح بيرغلر وسخرت منها.

المغالطة التاسعة تقوم على نظرية “مقياس النشر”، معنى ذلك؛ أنه يتم الاعتراف بالكاتب انطلاقا مما نشره، وأن النشر لا ينبغي أن يكون إلا من اختصاص أولئك الكتاب المبدعين.

والمغالطة العاشرة والأخيرة، والأكثر أهمية، وهي: “العلاج الذاتي”، حيث يُفسر الانسداد الأفق الإبداعي بأنه “ملل عادي” ويمكن تجاوزه ذاتيا، لكن في هذه الحالة يقدم بيرغلر استثناء يقضي بضرورة التمييز بين الحالة الطبيعية التي تستمر لأسابيع أو أشهر محددة، والحالة التي تستدعي علاجا نفسيا تحليليا، (ويمكن التفصيل أكثر عبر الاطلاع على الدراسة كاملة (1)).

يُستشف من مضمون دراسة بيرغلر أن تلك الحلول السريعة التي تهدف لتجاوز مرحلة “انسداد الأفق الادبي” التي أصبحت أشبه بإعطاء وصفة طبية واحدة لجميع المرضى، أو تلك الكتب التي تعنون بـ”كيف تصبح كاتبا في أسبوع”، لا تجدي نفعا وليست سوى مسكنات مؤقتة، تخفي أزمة فكرية حقيقية، تستدعي تدخل مختص في الحالات الحرجة.

يفسر رواد التحليل النفسي “للبلوك الإبداعي/ الادبي” أن الدافع للكتابة ينشأ نتيجة لصدمة ما في وقت الفطام، لتشكل الكلمات المتدفقة أثناء الكتابة بديلا نفسيا لتدفق الحليب الذي كان يريده وحرم منه، وحين يقوم المحلل النفسي يسترجع الكاتب تلك المرحلة أي مرحلة الفطام، أو مرحلة تغيير الحفاظة، دون الشعور بالخجل أو الذنب أو العار، تصبح حينها الكتابة  أمر بسيط، لتصبح مجرد وضع “ورقة جديدة” في آلة الكتابة والضغط على المفاتيح، مما يوضح أن الكتابة ما هي إلا تجميع للصراعات اللاواعية، وأن مسألة توليد الأفكار من جديد وتجاوز “البلوك” يتأتى بفك تلك العقد اللاواعية والمكبوتة.

ومن منظور اخر فأهم المسببات الرئيسية للانسداد الأفق الادبي، ألا وهو تخوف الكاتب من تدني إيقاع كتاباته من حيث اللغة والموضوع، خصوصا بعد إصدار أول عمل روائي، يكون الكاتب ملزما بالحفاظ على نفس المستوى من الحبكة، والسرد السلس والتعبير الجيد، مما يتطلب أن يكون في مزاج جيد يسمح له بالانتقال إلى أفق أعلى مما كان عليه سابقا، وهذا الأمر يجعل التحدي صعبا فكريا ووجدانيا على الكاتب، ويحاول قدر الإمكان إرضاء ذاته، وأن يكون وفق تطلع القارئ.

انسداد الأفق الابداعي يجعل الكاتب يستغرق وقتا كبيرا جدا بين العمل الادبي الأول والثاني، وقد تطول المدة لفترة زمنية كبيرة جدا، وغالبا تكون مصحوبة بالعزلة، والوحدة، وكثيرون هم الكتاب الذين وصفوا هذه المرحلة بـ”الأزمة”، ومنهم من كان ينظر للمجال الثقافي عامة ما هو إلا استمرار للأزمات كـرولان بارت الذي قال: “منذ أن بدأت أمارس عملي الثقافي وأنا أسمع عن الأزمات: أزمة نشر، وأزمة النقد، أزمة القراءة، أزمة الابداع، أزمة الرواية، أزمة الشعر، أزمة السينما” (عبد السلام بنعبد العالي، القراءة رافعة رأسها، ص 56)، كإشارة لارتباط الازمات بالمجال الثقافي.

الاعتزال الطوعي للكتابة: انحباس من نوع آخر

إلى جانب الدراسة المهمة التي حلل فيها “ادموند بيرغلر” أسباب سدة الكاتب، وصحح من خلالها مجموعة من المغالطات، في المقابل يوجد العديد من الكتاب ممن اختاروا العزلة والابتعاد عن مجال الكتابة، منهم من وضح أسبابها، وبين أنه اكتفى وأدى رسالته، ومنهم من اختار العزلة بشكل مفاجئ تاركا ورائه عدة تساؤلات تشغل ذهن القراء، ولم يوضح إن كان هذا الاعتزال اختياريا أم ناتجا عن “انسداد الأفق الإبداعي”.

اختار فيليب روث اعتزال الكتابة بعد مسار مهم من الانتاجات، وفي حوار له عندما سُئل: هل افتقدت الكتابة؟ كانت إجابته بأنه أنجز أفضل أعماله، وأي إضافة أخرى ستكون شيئا “رديئا”، كما برر اعتزاله بعدم قدرته الذهنية والبدنية واللفظية على الاستمرار، وأبلغ عبارة صرح بها فيليب في حواره حول سبب اعتزاله، بقوله: “ليس بإمكان كل شخص أن يكون مثمرا إلى الأبد”(2).

أما عن الكاتب ماريو بارجاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل، قرر اعتزال عالم الكتابة بعد صدور روايته “أهدي صمتي”، تاركا مسارا حافلا بالإنتاجات الروائية، أما الاعتزال الذي وصف بكونه “الاغرب” والاشهر في تاريخ الادب؛ هو اعتزال “جيروم ديفيد سالينجر” بعد إصدار روايته “حارس في حقل الشوفان” الصادرة سنة 1951 ولاقت روايته نجاحا عظيما آنذاك، لكن سرعان ما فاجأ محبيه باعتزاله المبكر، كما تم وصف روايته سالفة الذكر؛ بأنها خلقت توجها جديدا يدعى بـ”الكتابة الغاضبة”، لكون الرواية تخوض في مجموعة من الإشكالات الاجتماعية كزيف العلاقات واليأس، كما كانت توصف بأنها بمثابة “الكتاب المقدس للمراهقين” نظرا لتأثيرها، وبعد ذلك اعتزل اللقاءات وقيل أنه رفض أن يكتب أحد سيرته الذاتية؛ لذا ظلت حياته يلفها الغموض رغم النجاح المبهر الذي حققه (3).

أما غابرييل غارسيا ماركيز، كانت تتبادر شائعات عن اعتزاله الكتابة خاصة بعد إصدار روايته “ذكريات عن عاهراتي الحزينات”، لكن لم يتم تأكيد اعتزاله المؤقت، فظلت هذه الشائعات تترنح بين من ينفي ذلك، واخرون يؤكدون، لكن عموما فمسار “ماركيز” في الكتابة لم يكن مليئا بالمسرات، بل واجه العديد من التحديات، وفي هذا الصدد نستحضر قولة لغابرييل غارسيا ماركيز في مواجهته للورقة البيضاء: “كنت مرعوبا من الصفحة البيضاء كلما أراها أتقيأ، لكن ذات يوم، قرأت أفضل ما يمكن أن يكتب حول هذه المتلازمة، حيث قال ارنست هيمنغواي: “عليك أن تبدأ، عليك أن تكتب وتكتب، حتى تشعر فجأة أن الأشياء تخرج من تلقاء نفسها، كما لو كان شخصا ما يمليها على أذنك، أو كأن أحدا هو من يكتب، لقد كان على حق، إنها لحظة سامية”(4)

ويمكن القول، أن الكتابة تمر بمسارات متحولة، شغف وحب ثم ملل وانحباس ثم انعزال، وكل كاتب يختار أن يكتب مساره بطريقته؛ فمنهم من رحل مبكرا؛ وبعضهم أصر على الاستمرار رغم التحديات. لكن لا يمكن إنكار دور التحليل النفسي وطب الأعصاب وعلاقتهم بالآدب في تحليل انسداد الأفق الإبداعي، وتصحيح المغالطات الشائعة التي تستهين بهذه الحالة وتعتبرها مجرد كسل، في حين أن الوضع يكون معقد جدا، ولا يقبل تلك الحلول السطحية، كما أن ما كُتب من قبل المتخصصين في طب الاعصاب كثير جدا، ولا يمكن أن تسعه هذه التدوينة.

ختاما، يمكن القول ان شبح الورقة البيضاء نزيه جدا، فهو لا يميز بين كبار الروائيين الحاصلين على جائزة نوبل للأدب، أو أولئك اللذين يتلمسون الطريق للكتابة، لا يهمه عدد الانتاجات الأدبية، إذ كانت بالعشرات، أو مجرد اصدار واحد يتيم، شبح الورقة البيضاء شفاف جدا، لا يقبل الرشوة ولا يمكن أن تغريه مجرد قهوة مرة، بل ذو غرور عال الشأن، لا يتركك إلا إذا تأكد أن لك عزيمة الجبال الشامخة، وأنك مصر على الكتابة ولو كلفك الأمر سنين كثيرة من العمر، أو مبالغ طائلة عند المحللين النفسيين.

(1): رابط دراسة ادموند بيرغلر: https://www.jstor.org/stable/26301237?seq=1

(2): حوار اجراه تشارلز ماكغرات مع فليب روث، 2018، ترجمة: ميادة خليل    https://2u.pw/CKoef2uv

(3): الموت ينهي عزلة الروائي سالنجر الطويلة، 28 يناير 2010، https://2u.pw/yQJLJkNM

(4): نصائح غابرييل غارسيا ماركيز حول الكتابة: https://relatosmagar.com/frases-celebres-de-gabriel-garcia-marquez/

شارك

مقالات ذات صلة