مدونات
الكاتب: محمد الميموني
“هرب الأسد”، وترك اللغة العربية في حالة دهشةٍ مُربِكة، إذ لم تتعود يومًا على صياغةٍ تضع “الأسد” في موقع الهارب. ومع هذا الهروب، تحررت “سوريا”، وسُحِبت عنها أستار الروايات المضلِّلة، التي كانت تصف الثورة بأنها “حربًا أهلية داخلية” بين مكونات المجتمع الواحد، وانكشف الغبار عن خفايا الديكتاتورية التي لطالما غُلِّفت بقِشرة البذلات الأنيقة وربطات العنق، والخطابات الديبلوماسية والتصفيقات الحماسية، ليتبين للعالم؛ أن وراء كل هذا المشهد الأنيق يوجد سواد حالك، ظل مخفيا عن العالم الخارجي لعقود، تُنهش فيه عظام الأبرياء ويُخنق صوت الإنسانية.
من هنا، لا أسطيع إلا أن أطلب من القارئ الكريم أن يضع جانبا كل ما سمعه أو شاهده طيلة أيام الثورة، ليس استهانة به ولا تقليلا من شأنه، ولكن لننتقل معا إلى داخل سجن “صيدنايا” السيء السمعة، ولنأخذ جولة صغيرة في بعض أقسامه المتشابكة. هذا السجن ليس سوى جزء من ترسانة ضخمة من المعتقلات السرية التي بناها النظام المستبد، لغرض التعذيب وسحق الإنسان وتحطيم روحه ورغبته في الحياة. تم تصميم “صيدنايا” ليكون حِصنا منيعا، يجعل الهروب منه معجزة، والموت فيه بسرعة أمنية يحلم بها نزلاؤه. هو مسلخ بشري يُديره وحوشٌ وشياطين يقتاتون على عذابات المعتقلين ويَطربون لصرخاتهم “صيدنايا” عبارة عن ثقب أسود يبتلع كل من يدخله.
التهوية فيه شبه معدومة، خالٍ من الضوء الطبيعي، جدرانه تخزن وجع السنين، وتحكي قصص الذين ذاقوا المعاناة في أرجائه، ومرافقه في حالة بئيسة حتى الحيوانات لا تقبل التواجد فيها، وأعداد كاميرات المراقَبة مرعبة، ترصد كل حركة وتلاحق كل نفَس. وحسب بعض الشهادات المروعة، فإن تصفية المعتقلين تتم بشكل دوري لتقليل الأعداد فقط، وهذه التصفية يسبقها صنوف من التعذيب الوحشي التي لا يمكن وصفها. اللكمات والركلات والضرب بقنينات الزجاج والحديد، تعتبر أحنّ صُوَر التعذيب وألطفها مجازا.
وأما أبشعها، قد يراه البعض في “المكبس الكهربائي”، الذي لا أدري هل يستخدم لطحن جثث الموتى، أو لسحق الانسان حيا يتنفس ويشعر. إلا أني أراه في هتك أعراض نسائنا المسلمات العفيفات، اللائي لم يكن لهن ذنب سوى أنهن وجِدن في مكان يتغذى سجٌَانوه على غرائز حيوانية وحشية، فتكون كرامتهن أول ضحية في هذا الجحيم. في ظل هذا المناخ المشبع بالاستبداد، يتلاشى الصوت العقلاني الذي يدعوا إلى التريث في بناء الموقف من “تحرك الثوار”، ويِصبح الإنسان أقل رغبة في الاستماع للتحليلات الاستراتيجية والسياسية والعسكرية -على أهميتها-، لأن مواجع من سِلِّمت رقابهم لخناجر الظلم والجور، تستدعي الفرح بلحظة التحرير بعيدا عن هذه الحسابات المعقدة. تحررت سوريا؛ وعادت إلينا “دمشق الياسمين”، بحدائقها الغناء ونسائمها العليلة، ورائحة الزهر التي تعبق في أزقتها العتيقة. ورجعت “حلب الشهباء”، بقلاعها الراسخة وأسواقها الأثرية، المدينة التي تُفاخر العالم بأصالتها وأغنياتها العذبة. وانعتقت “حماة”، مدينة النواعير البديعة، رمز الصبر والجَلد، وموطن “حلاوة الجبن” الحَموية. واستُردَّت “حِمص”، أمُّ الحجارة السود البازلتية، مدينة الفكاهة والفرح، التي تحمل بين أبنيَتها خفة الروح وأُلفة الأهل والأصحاب. وأزهرت “اللاذقية” بنسائم حريتها، عروس الساحل التي تعانق البحر وتروي أسرار التاريخ. وانكسرت أغلال “إدلب الخضراء”، مهد الزيتون، وجوهرة التلال الخضراء الخِصبة.
حين يبرزغ فجرُ الحرية، يُولد الإنسان من جديد، ويجد نفسه أمام آفاق لا متناهية من الفرح الذي لا تُشبهه الأفراح السابقة. ليس الفرح هنا ساذجا، كما يعتبره من يرفعون شعارات “المؤامرة”، ويرتدُون عباءات التخويف من غموض المستقبل، مع كثرة اللاعبين الدوليين في قضية سوريا.
“لسَّاتنِي عايش”؟!؛ بهذه الحروف تمتم أحد المُعتقلين وُجِد في حالةٍ مزرية، ليُبرز لنا معنًا عميقا من معاني الفرح بالانعتاق والحرية. إنه شعور العودة للحياة بعد موتٍ بطيءٍ سحق كرامته وهشّم أضلاعه، يستيقظ الشخص مدهُوشًا فزِعًا على وقع أقدامٍ وضجيجٍ من الأسئلة: (ما اسمك؟ إنت من وين؟ لا تخاف لا تخاف سقط النظام! تكلم لا تخاف بشار هرب!)، فيظهر من ملامحه ونظراته أنه لم يفهم شيئا مما قيل. ولعله ظن نفسه في قبره يُسأل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟
صحيح أن فلسطين هي البوصلة الكُبرى، ولكن السوريين لم يكونوا مُطالَبين بتحرير القدس، أو الدخول في صدامٍ مع دُوَيلة “إسرائيل”، لتبرير حُسنِ نواياهم أمام أمتهم، فهذا الربط عجيب وغريب. ما وقع على أرض سوريا أكثر من كافٍ للنضال من أجل الحرية والانعتاق من براثن الظلم والاستبداد، فمن عاش هذا الكم من الظلم، وعانى لسنوات طويلة من القهر، لا يحتاج إلى دروسٍ في النضال أو إثبات صدق النوايا.
فالإنسان الذي ذاق الظلم، وعاش في ظلام السجون والمعتقلات، لن يكتفي بتحرير نفسه فقط، بل يحمل معه قضية التحرير الكبرى، لأنها امتدادٌ طبيعي لفطرته الحرة. ومن كان يطالب بالحرية في سوريا، لن يكون أقل حماسة في دعمها في فلسطين وكل بقعةٍ من الأرض؛ لأن هذه المعركة واحدة، والإنسان الحر لا يعرف إلا أن يعيش مرفوع الرأس، مدافعًا عن كرامته وكرامة كل مظلوم.
إن الحرية غالية الثمن، والسعي لنيلها فطرةٌ صافية نقية، ولا يستطيع الاستبداد تطويقها وكسرها للأبد. لأن الاستبداد هشٌّ وشفاف، فهو نظام يُبنى على الخوف والتسلط، لكنه ينهار كبيتٍ من ورق عند أول هبةٍ وصرخة. الحاكم المستبد يخشى الإنسان الحر لأنه يعلم أن الكرامة إذا أُشعلت في النفوس، لا يمكن إطفاؤها.
ولعل ما رأيناه في سوريا من مواجهةٍ شرسة بين آلة القمع ورغبة الإنسان في العيش بكرامةٍ، يُثبت أن الحرية ليست مجرد حلم عابر، بل هي نداء داخلي يتجاوز الحدود، ويكسر الحواجز، ويُسقط كل أوهام الطغاة وعُبَّاد العروش والكُروش.
هرب بشار وسقط نظامه، فمن التالي؟ ابحثوا عنه، فلعلكم تجدونه في هذه الكلمات الخِتامية. إذا أردت أن تعرف المستبد، وتقيس درجة هشاشة نظامه، فانظُر إلى الأداء الذي تقدمه أدواته الإعلامية بالمقام الأول، ودعك من الفنانين والجمعيات والمراكز والخبراء والأدباء المرتبطين به. فكلما علا ضجيج الإعلام لتلميع الصورة بالأكاذيب والمديح والتطبيل، كان ذلك دليلا واضحا على حالة الخوف والارتباك والضعف والوهن والفوضى.