مدونات

أرض الميعاد وجنة عدن بأعين إسرائيلية

ديسمبر 18, 2024

أرض الميعاد وجنة عدن بأعين إسرائيلية

الكاتب: شهد دعباس

 

أكثر ما كان يثير استغرابي هو أنه إذا كان اليهود فعلاً مرتبطين بهذه الأرض وفقاً للنصوص التوراتية القديمة، فلماذا يقومون بإحداث أضرار هائلة فيها؟ بدءاً من مسح أحياء سكنية كاملة باستخدام الأسلحة الثقيلة التي تزن أطناناً، مما يتسبب في تدمير البنى التحتية وقتل كل أشكال الحياة في غزة، وصولاً إلى استخدام أساليب أقل دموية في الضفة الغربية، مثل حرق المحاصيل الزراعية وقطع الأشجار وتجريف البسطات، فضلاً عن استخدام المتفجرات لهدم واجهات المنازل خلال العمليات العسكرية، وغير ذلك.

وفي 16 ديسمبر 2024، قامت السلطات الإسرائيلية بتجريف عدة مشاتل في قرية دير الغصون شمال محافظة طولكرم في الضفة الغربية. وهذه الحادثة، وغيرها من الحوادث التي تشمل تسميم الماشية والنباتات أو حرقها، تتكرر بشكل شبه يومي في مختلف مناطق الضفة الغربية.

 لربما يمكننا أن نضع إجابة لذلك السؤال في سياقين رئيسيين: الأول يتعلق بنظرة أوائل المستوطنين الأوروبيين لسكان الأرض الأصليين على أنهم «بدو رحل»، مما خلق صورة خاطئة عنهم كأشخاص لا ارتباط لهم بالأرض، على الرغم من وجود العديد من القرى التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. أما السبب الثاني، فيمكننا وضعه في سياق مباهاة إسرائيل بأنها هي التي “جعلت الصحراء تزدهر” سأبدأ بالسياق الثاني قبل الأول.

 يكرر العديد من الإسرائيليين خرافة أن فلسطين كانت في الأساس صحراء قاحلة وخالية من السكان حتى وصل الصهاينة الذين «جعلوا الصحراء تزدهر». ففي رسالة أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، الموجهة إلى إسرائيل لتهنئتها بذكرى تأسيسها الخامسة والسبعين، كررت أورسولا هذا الشعار المستهلك القديم. ويعود ذكر هذا الشعار إلى مذكرات يوسف فايتس، الذي شغل منصب مدير إدارة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي (1890–1972). ففي أحد التقارير التي كتبها للحكومة الإسرائيلية، أفاد قائلاً: “لقد بدأنا عملية التطهير، وإزالة الأنقاض، وتجهيز القرى للزراعة والاستيطان. سنجعل هذه القرى حدائق”.

وقد أفاد فايتس بفخر أنه كان غير متأثر برؤية الجرارات وهي تدمر القرى بأكملها. وفي كتاب إيلان بابيه المعنون بـ «التطهير العرقي في فلسطين»، ذكر أنه عندما كان يتم تدمير القرى وتحويلها إلى أنقاض بالكامل، كان يتم زرع المتفجرات في الأنقاض لمنع أي شخص من العودة. وللمفارقة العجيبة، ذكر هانس ليبرشت، عندما تحدث عن فظائع مجزرة عين الزيتون الواقعة شمال صفد في نهاية مايو 1948، أنه أمر من قبل الوحدة العسكرية التي كان يخدم فيها ببناء محطة ضخ مؤقتة، وتحويل مجرى جدول قرية عين زيتون «المهجورة» لتوفير المياه للواء. ومع أن القرية قد دمرت تمامًا وكانت الجثث، تحديدًا جثث النساء والأطفال والرضع، متناثرة في المكان، إلا أنه تم إقناع الجيش بحرق الجثث من أجل إتاحة الفرصة لإتمام مشروع إمدادهم بالمياه. وهذا ما نشاهده اليوم في الجرائم الفظيعة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة.

عادةً ما يتم تصوير «إنشاء» مستوطنات يهودية جديدة بأنها مصحوبة بأنشطة تشجير، تقوم بها الصندوق القومي اليهودي، وتسوَّق نفسها على أنها تقوم بمهمة بيئية نبيلة تهدف إلى إبقاء البلاد خضراء والمحافظة على البيئة، بينما يقوم ذات المستوطنون وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي بحرق وقطع الأشجار في الضفة الغربية.

 أما بخصوص السياق الأول المتعلق بنظرة أوائل المستوطنين الأوروبيين لسكان الأرض الأصليين على أنهم «بدو رحل»، فيجب علينا أن نُفرِّق بين ما يُعرف بالاستعمار التقليدي وبين ما يسميه «المؤرخون الجدد» أمثال آفي شلايم، إيلان بابيه، وبيني موريس بالاستعمار الاستيطاني. وفقًا للمفهوم التقليدي للاستعمار، تُسيطر الدول المُستعمِرة – كما كان الحال مع بريطانيا وفرنسا في العالم العربي وأفريقيا – بهدف تحويل السكان الأصليين إلى رعايا مُستعمرين مخلصين لها، كما يهدف إلى جعلهم أكثر تحضرًا.

ففي هذا النوع من الاستعمار، يُوَسَم السكان الأصليون دائمًا بأنهم «همج» أو «بدائيون»، ولا يهدف المستعمرون أبدًا إلى أن يصبحوا الأغلبية السكانية المهيمنة في الأراضي التي يستعمرونها. أما في الاستعمار الاستيطاني، فيهدف المستعمر بشكل رئيسي إلى استبدال المجتمع الأصلي بالكامل بمجتمع المستعمر، وتكون الدولة المُستعمِرة امتدادًا للدولة المُستعمِرة الكبرى، كما هو الحال في أمريكا الشمالية وأستراليا.

وهكذا، يتم تمديد النفوذ الإمبريالي للقوى الكبرى وخلق أنظمة حليفة في أراضٍ بعيدة. فكما قال بايدن في أثناء زيارته «التضامنية» إلى تل أبيب في أعقاب السابع من أكتوبر: «لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها». فبينما يدعي المستعمرون أنهم يسعون لتنوير وجعل المجتمع المُستعمر أكثر حضارةً، يرى المستعمرون الاستيطانيون أنفسهم أنهم يطورون الأرض وليس الناس.

فلا يهدف المستعمرون الاستيطانيون أبدًا إلى خلق أي شكل من أشكال التعامل الذي يهدف لتطوير الطرف الآخر، بل يسعون إلى محو كل أشكال الحياة والثقافة للمجتمعات الأصلية.

حيث تبدأ ساعة الزمن لديهم منذ اللحظة التي يتخلصون فيها من السكان الأصليين وكل ما يتعلق بهم، وكما يقول بابيه، فإنهم يعتبرون تلك اللحظة بداية تاريخهم، إذ يرون أن السكان الأصليين يمثلون عقبة أمام تحقيق أهدافهم الاستعمارية، ويعتقدون أنه يجب إزالتهم بسبب اختلافهم الواضح عنهم، حتى لو تطلب الأمر استخدام الوحشية. وهذا ما يسميه الباحث والمؤرخ باتريك وولف «منطق الإقصاء». ويتجلى هذا المنطق بوضوح في ممارسات التطهير العرقي التي حدثت في عام 1948، حيث تم تدمير نحو 531 قرية فلسطينية، وقتل وتهجير سكانها، بالإضافة إلى تدمير أكثر من 11 حيًا مدنيًا فلسطينيًا.

 ختامًا، عادة ما يبني المستوطنون مبررًا أيديولوجيًا قبل وأثناء قيامهم بأعمال التدمير، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، ليعيشوا نشوة البطل المنتصر الذي هزم الأعداء وحوّل الصحراء القاحلة إلى جنة عدن.




شارك

مقالات ذات صلة