آراء
استأثر ربيع دمشق بروزنامة الفصول هذا العام وانتزع توقيته غير المعهود من قلب شتاء لم يصمد كثيرا أمام ازدحام الألوان، تطاير الياسمين الشامي أعراسا طال انتظارها وانتشى السوريون ومعهم العرب حرية انتظروها زمنا.
أخيرا، ثمة من سيعانق الحارات والمآذن والقباب بعد فراق، ويتنفس عطر النارنج وتتراقص روحه على الأهازيج الحلبية ويفتح ذراعيه للحرية من أعالي قاسيون، ثمة من سيقبل الأرض عند المفارق والزوايا الدافئة بعد غربة في سجن أو منفى، ويصلي شكرا في محراب الأموي مع دمعة نصر وخشوع.
نعم سقط الأسد! عبارة كفيلة بأن تملأ جوف السوري بخليط معقد من المشاعر والانفعالات والتساؤلات، ليس التساؤلات فقط إنما الترقب والتوجس والخوف والرجاء دفعة واحدة، فلم يحدث أن عاش السوري حلما كبيرا يتحقق تحت مظلة آخر أشبه بكابوس!
على امتداد المدن والمحافظات يواكب الشعب استحقاقا وتحولا جذريا على إيقاع الأخبار الطائشة وتحليلات اللحظة وواقع يطمئن الحاضر ويخيف المستقبل. قد يقول قائل ما من أحد يحق له سلب الفرحة من أهل الشام، وهو كذلك، لكن الوجوه تحكي في ملامحها سرورا ممزوجا بالتعب، وعيون غائرة وحائرة ترقب المشهد بتردد فثمة جراح يصعب تضميدها سريعا ومن تنهكهم كهرباءهم وماءهم ورغيف خبزهم ولجوءهم لن ينعموا بين ليلة وضحاها بنعيم التغيير، خاصة وأن السلطة الجديدة ألقيت بين يديها تركة ثقيلة جدا ومتخمة جدا بفساد أمني وسياسي واقتصادي وخدماتي وإرث بعثي صدئ تجاوز الخمسين عاما من عمر السوريين وسط تلبد غيوم إقليمية ودولية وجهات تتنازع مصالحها وتسعى لاستثمار الطقس السياسي العاصف وتلقف فرصة لم تكن لتأتي يوما في حقبة آل الأسد.
شكرا للثوار وتهانينا لسوريا الحبيبة وحذار الخيبة بعد الفرحة ! نعم الحذر، يحق لأي كان الآن وبعد ثورة المشاعر الغامرة أن يستشير العقل في جلسة تأمل وهدوء، وليس في الأمر من يسعى لأن يعكر أو ينغص زهوة المحتفلين، بل لعله الخوف المبرر لمن ألف مشهدية الخمسة عقود ونيف، أو هو حرص المواطن على وطنه في لحظة مخاضه، أو هو الواقع الذي غالبا ما يجافي الحلم.
الأيام كفيلة بإظهار المزيد حول سوريا الجديدة، والإجابة عن تساؤلات الداخل والخارج لكن الثابت أن المشهدية اليوم مركبة ومربكة معا، فنحن أمام بلد تضيئ سماءه مفرقعات نارية ابتهاجا، ورصاص إرهاب لم ينم عنه يوما، بلد يستعيد حريته على جغرافيا هلامية تتقلص حدودها شيئا فشيئا بين أنياب ذئاب تقاتلت وستتقاتل على مواطئ لأقدامها احتلالا أم نفوذا أو أنابيب غاز ونفط.
لا شك أن الرجل الحامل لإسمين وضع قدما له في مركبة التاريخ لكن هل سينجح سريعا في قطع المسافة بين أمواج أبو محمد الجولاني المتلاطمة والرسو سريعا على بر أحمد الشرع؟ وبالتالي مسح الخلفية القاعدية من ذاكرة السوريين والآخرين، هل سينجح بتبديد مخاوف الجميع من تكرار سيناريو عام 2011؟ عداد الوقت يمر، وإذا كان الرجل قد نجح في انتزاع قيمة رمزية ومعنوية منحته إياها الجماهير السورية التواقة لمشهد اليوم، فهل سيصمد ذلك أمام تاريخه وماضيه والمال الذي تغدقه عليه الجهات الراعية لهذا التحول؟ وهل تشذيب اللحية وتغيير الملبس والإسم كفيل بذلك؟ ماذا عن الأقليات الباحثة عن مسارها ومصيرها في كنف الدولة الجديدة ذات الصبغة الإسلامية؟ وهل باقة الربيع الثوري المزخرفة ببعض التطمينات والوعود كافية؟ ماذا عن الفصائل الأخرى وراياتها المتناحرة والمتقاتلة على أجزاء من الخارطة السورية ؟ ماذا عن المؤسسات والدستور والجيش والإعلام والقضاء والطبابة والتعليم وتركة البعث؟ هل يحق لأي سوري اليوم وبعيدا عن تهم العمالة الجاهزة أن يسأل عن مخاطر اللعبة الإقليمية والدولية والأثمان المدفوعة؟ ماذا عن الجولان وعن الاحتلال الإسرائيلي الذي يتمدد منذ اللحظة الأولى والذي نجح بغضون ساعات في جعل سوريا بلدا مبتور الأطراف منزوع السلاح دون أن يعكر صفو توغله اعتراض؟ أين هم رموز الحركة الفكرية والثقافية المعارضة التي اكتظت منابرها ببرامج وطنية وانتخابية وتغييرية عند اندلاع ثورة عام 2011 ؟ أم أنها انكفأت وربما عنوة لصالح طرف تحرك بمساحيق تجميلية جديدة تصدرت ما عداها ؟ هل مازال بالإمكان أن يتلفظ أحدنا بالسؤال عن فلسطين التي حفرت في وجدان السوريين وترسخت في طلقاتهم ذات تشرين عام 1973، أم أن عرين العروبة لفظت فلسطين والأسد معا في تدافع إقليمي ودولي ابتلع القضية التي طالما احتضنها التراب السوري؟
لم يبلغ الحلم العربي منتهاه يوما في أي وطن من أوطانه المنهكة والمبعثرة، ولذلك عليكم أيها السوريون العبور سريعا إلى واقع ما يطبخ ويحاك، من عفرين إلى الجولان إلى إدلب وحماة ومن القامشلي إلى الحسكة ومن القرداحة إلى السويداء ودرعا ودير الزور، الجغرافيا السورية كلها مهددة مهما بدا المشهد ورديا، أنتم الآن مسؤولون عن كتابة تاريخ بدأ للتو والتنبه لربيع أزهر في غير فصله وعلى حين غرة، لذلك الكل مطالب بأن يكون أمينا على اللحظة يتتبع آثار أقدام همجية يرسمها العدو بالنار، يزرع بذور تعايش جديد بدلا من حصد حقول ارتوت بالدم وأينعت بالثأر والكراهية، أن يقطع الطريق على ناقلي البنادق من كتف لآخر، والكثير الكثير مما يحتاجه الوطن من أبنائه، لأننا لن ننتظر كثيرا لنسألكم عن بلد له حصة في قلوب أشقائه، لنسألكم عن الشام، عن أذان يرفع وأجراس تدق وفيروز تصدح، عن أرصفة الشباب والصبا ومقاعد حب مبللة بالمطر، عن مقاهي الشعراء والأدباء، عن إرث أدونيس ونزار، عن الدراما الجميلة والفن والتراث، عن الكثير من سوريانا العظيمة التي آن لها أن نزفها عروسا مزركشة باللؤلؤ والياسمين، لا أن نشيعها جثة في جنائز موت يحمل نعوشها القتلة والمتربصين، وبين صلاة وصلاة نحن المحبون نبتهل فقط أن لا تنقلب الأعراس جنازات!