آراء
أكتب هذة المقالة و أنا لا تسعني الفرحة و أنا أرى البشائر تعلو سماء الشام ، بسقوط الطاغية العنصري الطائفي الذي لا يؤمن بالتعددية و لا يؤمن بأحقية العربي السوري بالعيش الكريم . فدمشق الآن تحلت بالزينة و حق لها أن تتزين و هي تستقبل جموع الفاتحين لها ” بدعوة ” ترنو للإصلاح العام و نبذ الفساد بأنواعه.
فدمشق ليست مجرد مدينة تاريخية ، فهي في أعين المشرع الإسلامي مدينة مباركة ارتبطت بأحداث آخر الزمان وبالصمود أمام الفتن ، فقد وردت “دمشق” في العديد من الأحاديث النبوية التي تؤكد مكانتها وأهميتها في التاريخ الإسلامي وآخر الزمان. فقد روي عن النبي ﷺ: “إني رأيت عمود الكتاب أُخذ من تحت وسادتي، فأتبعته بصري حتى عُمد به إلى الشام. ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام.” (رواه أحمد والطبراني) . فهذا الحديث يشير إلى أن الشام، ودمشق على وجه الخصوص، ستكون حصنًا للإيمان عند اشتداد الفتن، مما يجعلها مركزًا للصمود الديني.
كما جاء في الحديث الشريف عن نزول المسيح عليه السلام: “ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق.” (رواه مسلم). هذا يؤكد أن دمشق ستشهد حدثًا عظيمًا إستراتيجيا في آخر الزمان، يتمثل في نزول عيسى عليه السلام لإقامة منظومة العدل في المعمورة.
وروي عن النبي ﷺ: “عليكم بالشام؛ فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه.” (رواه أبو داود). فهذا الحديث يبين فضل الشام وسكانها، ودمشق بصفتها عاصمة الشام، كمدينة يقطنها الأخيار، مما يمنحها مكانة دينية مميزة.
تجمع هذه الأحاديث الشريفة و الإشارات النبوية إلى دمشق كمركز إيماني وتاريخي، وكموقع للأحداث الكبرى في مستقبل الأمة الإسلامية، ما يؤكد أهميتها في المنظور النبوي والشرعي و العروبي كون العرب أول مخاطب بذلك.
فمع مجيء الاسلام و دخول العرب الى سوريا ، كان فتح دمشق من أبرز إنجازات المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، حيث تم ذلك الفتح في عام 14 هـ (635 م) بقيادة القادة الكبار خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان. وجاء هذا الفتح بعد الانتصار الحاسم للقوات العربية في معركة اليرموك، والتي مهدت الطريق للسيطرة على بقية اقليم الشام الكبير . ويذكر في التاريخ أنه تم حصار دمشق حصارًا شديدًا وهي تحت النفوذ السياسي الروماني ، حيث قاد خالد بن الوليد العمليات العسكرية واقتحم المدينة من الباب الشرقي، بينما دخل أبو عبيدة من باب الجابية بعد مفاوضات سلمية ضمنت الأمان لأهلها.
فكان هذا الفتح نقطة تحول في التاريخ العربي الإسلامي لمدينة دمشق ، إذ أصبحت المدينة العربية الجديدة أول حاضرة كبرى في الشام تنضم إلى الدولة الإسلامية ومركزًا سياسيًا وعسكريًا. مهد الفتح لقيام الدولة الأموية، التي اتخذت دمشق عاصمة لها، ليبدأ عصر جديد من الازدهار السياسي والحضاري العربي تحت راية الإسلام.
فأصبحت دمشق مركزًا سياسيًا عالميًا عندما اختارها الخليفة معاوية بن أبي سفيان عاصمةً للدولة الأموية عام 661م، فامتد نفوذها من الأندلس غربًا إلى الهند شرقًا. وشهدت المدينة في هذه الفترة ازدهارًا إداريًا وعمرانيًا تغنت بها البحوث الأكاديمية الجديدة الباحثة في تطور العلوم والادارة في تلك الفترة ، وبني فيها الجامع الأموي الذي ظل شاهدًا على عظمة الدولة الأموية. وبعد سقوط هذه الدولة عام 750م على يد العباسيين حيث جرت تحديات انتقال السلطة من الشام الى العراق ، فانتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد وأصبحت دمشق ولاية عباسية . وخلال الحروب الصليبية، برزت دمشق كقلعة للمقاومة العربية الاسلامية في مواجهة القوى الغربية الاوروبية ، ونجح صلاح الدين الأيوبي الكردي في توحيد صفوف المسلمين واستعادة القدس عام 1187م، مما أكد أهمية الوحدة السياسية والتخطيط الاستراتيجي لمن يشرف على الشام و دمشق بالتحديد في مواجهة التحديات الخارجية التي تقودها القوى العظمى.
أما في العهد العثماني (1516-1918)، استمرت دمشق كمركز إداري وثقافي بارز في الرقعة الشامية السورية ، و بعد انهيار الدولة العثمانية، وقعت دمشق تحت الانتداب الفرنسي عام 1920، فاندلعت حركات المقاومة السورية ، وأبرزها الثورة السورية الكبرى في العشرينات ، والتي أكدت إصرار الشعب السوري الحر على نيل حريته. وحصلت سوريا على استقلالها عام 1946، ودخلت دمشق مرحلة جديدة من التطورات السياسية. وفي فترة ما بعد الاستقلال، شهدت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية الحادة جدا ، حتى استقر الحكم في يد حافظ الأسد والأسرة العلوية عام 1970، الذي فرض نظامًا شموليًا يعتمد على قبضة الأجهزة الأمنية وافرازات حزب البعث الحكمية و الادارية ، مما أدى إلى استقرار ظاهري لكنه قمعي في جوهره في رأي كثير من الباحثين والمراقبين للتحولات السياسية في سوريا.
وبعد رحيل الأسد الأب ، تولى بشار الأسد الحكم عام 2000، ورافق توليه آمال بإصلاحات سياسية واقتصادية ويقال أنه كان هناك جدية من قبل النظام الحاكم بقيادة بشار الأسد بعمل تلك الإصلاحات و التسويات السياسية ، لكن سرعان ما خابت هذه الآمال بسبب استمرار ثقافة القمع وغياب الإصلاحات الجذرية. مما أدى هذا الاحتقان إلى اندلاع الثورة السورية عام 2011، التي بدأت بمظاهرات سلمية تطالب بالحرية والكرامة، لكن النظام الرسمي رد بعنف مفرط غير مبرر أدى إلى تحول الاحتجاجات إلى نزاع مسلح حاد . فجاءت التدخلات الدولية من روسيا وإيران لدعم النظام الرسمي مما أسهمت في استمرار آثار الحرب المؤلمة ، والتي أدت إلى دمار هائل وتشريد الملايين من السوريين السنة . ورغم المعاناة و رغم الجروح التي شاحت وجه دمشق وأعني بها فكرة الحضارة التي اتسمت بها حيناَ طويلا من الدهر ثم وقوعها تحت إدارة لا تحسن قيمتها و قيمة شعبها ، تظل دمشق، رغم كل ما مرت به، رمزًا للصمود والحضارة، ولا يزال أهلها السوريون يتطلعون إلى مستقبل دمشقي ، يسوده السلام والاستقرار والعدالة.
حتى جاء هذا اليوم الثامن من ديسمبر، الحدث التاريخي الكبير و الإستثنائي في تاريخ السوريين بعد تضحيات هائلة ومقاومة لا تلين، حيث انتفضت المعارضة المسلحة بعد تطور فكرها الإستراتيجي بعد عقد من الزمان و أصبحت اكثر مرونة و ذكاء ، وبقية السوريين كذلك مطالبين بالحرية والكرامة ، فجاءت لحظة سقوط النظام بمثابة ولادة جديدة للأمل والعدالة، وقد غمرت الفرحة شوارع المدن السورية من دمشق إلى حلب وإدلب ، بل لا أبالغ أن الفرحة عمت كل عربي حر بل كل إنسان ذو ضمير حي ، و ترددت أصوات الهتافات والزغاريد، وعانق الناس بعضهم البعض بدموع الفرح بعد طول معاناة. فكان حقا هذا اليوم هو تجسيد لحلم طال انتظاره، حيث تحرر الشاميون من الاستبداد، فهم الآن متطلعين إلى بناء وطن يسوده السلام والعدالة والحرية، وإعادة إعمار بلادهم وتضميد جراحهم، مستلهمين من تجربتهم الصعبة روح الوحدة والتكاتف. وعلى الرغم من الصعوبات والخوف والترقب من التحديات القادمة والتي قد يشوب بعضها الغموض ، إلا أن سقوط نظام الأسد ستكون بداية حقيقية لعهد جديد ينعم فيه السوريون بحياة كريمة بعيدًا عن الخوف والاستبداد.