سياسة
أواخر ديسمبر ٢٠١٦، وتزامنًا مع خروج آخر دفعة من مقاتلي المعارضة والمدنيين من الأحياء الشرقية من حلب، ظهر بشار الأسد على قناة روسيا اليوم متحدثًا عن المعركة التي جرت قائلًا: “إن استعادة حلب ما كانت لتتم لولا الدعم الكبير من حلفائنا، خصوصًا روسيا وإيران وحزب الله، الذين وقفوا معنا في معركتنا ضد الإرهاب”.
وفي رد على سؤال عن لحظة تحول المعركة، وصف الأسد الغارات الجوية الروسية بأنها العامل الرئيسي في تغيير ميزان القوى، وكرر كذلك شكره لـ “الدعم الإيراني السياسي والعسكري” ودور حزب الله في “القتال الميداني”.
الراقص على السلالم
كان من الممكن أن يتغير التاريخ ويخرج الأسد من المعادلة، عندما هاجمت الفصائل المسلحة دمشق عام ٢٠١٣، ووصلت إلى مناطق تبعد عن ساحة العباسيين وسط العاصمة أقل من كيلومترين، وتبعُد ٧ كيلومترات فقط عن القصر الجمهوري. بعد هذه اللحظة، تغير شكل المواجهة، خاصة بعد انضمام جماعات مسلحة عراقية وإيرانية للقتال إلى جانب الجيش النظامي في دمشق، بالإضافة لانضمام حزب الله اللبناني إلى المواجهة بشكل واسع، خصوصًا في معارك ريف حمص، فضلًا عن الدعم الإيراني غير المشروط بالسلاح والاستشارات العسكرية. لكن بفضل هؤلاء جميعًا استطاع الأسد البقاء في كرسيه، بل واستعاد السيطرة على معظم المدن التي خسرها.
مع مرور الزمن وانحسار “الثورة” إلى إدلب، أعاد الأسد تقديم نفسه إقليميًا من جديد بمساعدة إماراتية، بدأت بافتتاح أبوظبي سفارتها في دمشق عام ٢٠١٨، ثم زيارته للإمارات عام ٢٠٢٣ في أول زيارة لدولة عربية منذ عام ٢٠١١، وتعمد الأسد شكر أبوظبي على دورها في “دعم استقرار سوريا”، مشيدًا بما أسماه “النهج الإماراتي الوسطي”. وبعد شهرين فقط من الزيارة، استعاد مقعده في جامعة الدول العربية.
وكمحاولة منها للإضرار بالنفوذ الإيراني في المنطقة، حاولت الدولة الخليجية طبقًا لرويترز، دق إسفين بين الأسد وحليفه الإيراني عن طريق تقديم وعود له تتضمن إنهاء العقوبات الأمريكية وإعادة تقديمه عالميًا كما أعادته عربيًا، مقابل إنهاء علاقته بإيران، وقطع طرق إمداد حزب الله بالسلاح.
تزامنت تلك المحاولات الإماراتية مع إبداء الأسد مواقف متحفظة تجاه أحداث ما بعد السابع من أكتوبر، سواء غيابه عن نعي قيادات حماس، أو قيادات حزب الله بشكل عام، بل وكان لافتًا غياب نعيه لثلاثة أيام كاملة لأمين عام الحزب حسن نصر الله، ولم يكتف بالتأخر بل جاء النعي جافًا وخجولًا دون ذكر لفظ “حزب الله” أو أمينه العام بالاسم، مكتفيًا بلفظة “المقاومة اللبنانية” و”الشهيد نصر الله” ما أثار امتعاض أجزاء من الحاضنة الشعبية للحزب.
وبعد اندلاع الجبهة اللبنانية، وتحويل الجيش الإسرائيلي جهده الأساسي إليها، لم يُتح بشار الأسد لحزب الله أو لغيره إطلاق هجمات على القواعد الإسرائيلية من الأراضي السورية لتخفيف الضغط عن الجبهة اللبنانية، رغم أن الجيش الإسرائيلي أعطاه مبررًا عندما توغل لعشرات الأمتار داخل محافظة القنيطرة السورية، في ظل استمرار الطيران الإسرائيلي ضرب عشرات الأهداف، بعضها داخل دمشق، وتنفيذ إنزالات جوية كشف النقاب عن أحدها الشهر الماضي، مع اكتفاء الأسد بالصمت المطبق، ربما لمحاولة إبعاد نفسه عن إيران، تنفيذًا لوصية الدولة الخليجية السالف ذكرها.
“محور المقاومة” والشريك الفاشل
كتب أحد المحسوبين على “محور المقاومة” غاضبًا، بعد الأنباء المتتالية عن فرار الجيش النظامي وفقدانه المدن واحدة تلو الأخرى، أن بشار الأسد فشل في الشيء الوحيد الذي طلبه منه المحور، وهو الاحتفاظ بكرسيه، وبقدر ما كان هذا الطلب سهلًا، لكنه لم يستطع تنفيذه، “وينتظر مساعدتنا!”
ولكن حتى لو أراد المحور مساعدته، لن يستطيع. إذ تختلف هذه المرة كليًا عن سابقتها، فمع الضربات الشديدة التي تلقاها حزب الله في لبنان، وكذلك تدمير المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، يبدو أن الحزب لن يتمتع بالمقدرة على نقل بعض من قواته إلى سوريا. على الأقل ليس بشكل واسع كما جرى سابقًا.
وفي ظل الرقابة الإسرائيلية على المطارات السورية، سيكون من الصعب كذلك نقل إمدادات عسكرية إيرانية إلى جيش بشار المتهالك، خصوصًا مع الوضع في الاعتبار أن روسيا مستنزفة بالكامل في أوكرانيا، وليس لديها إلا ما يقرب من ١٠ مقاتلات في قاعدة حميميم الجوية، يزيدون أو ينقصون قليلًا، طبقًا لصحيفة هآرتس الإسرائيلية. وبالتالي، فلا يمكن للجيش النظامي التعويل على الضربات الجوية الروسية، كما أنه لا يمكنه التعويل كذلك على الحليفين الإيراني واللبناني المستنزفين تمامًا، والجريحين جراء معاركهما مع إسرائيل.
والمثير للتعجب أن الأسد رغم تيقنه أنه كان يعتمد كليًا على الإيرانيين وحزب الله في ترسيخ مملكته، لم يكلف نفسه بتجهيز وإعادة هيكلة جيشه المهلهل، رغم أنه عرف، بالتجربة القاطعة، أن قواته خسرت معركتها الحقيقية يوم وصول المعارك إلى مشارف وسط العاصمة، وأنه لولا الإيرانيين لكان مصيره الآن مثل القذافي، أو على الأقل لكان قد لجأ إلى إحدى المدن الروسية.
سوريا المفيدة
راج مصطلح “سوريا المفيدة” بين مثقفي وداعمي بشار الأسد عام ٢٠١٦، في إشارة إلى ست محافظات هي دمشق، وريف دمشق، وحماة، وحمص، ومدن الساحل اللاذقية، وطرطوس. في تلك الفترة كان الجيش الحر يسيطر على مناطق واسعة في حلب وريفها، وريف حمص، وريف حماة. هذه الاستراتيجية تقضي بالانكماش داخل المحافظات الست المكونة لـ”سوريا المفيدة”، وعدم الاهتمام بما يدور خارجها، وذلك لما للمحافظات الست من أهمية اقتصادية وسياسية وجغرافية، ولاستحالة السيطرة على كامل محافظات سوريا بسبب النقص في الموارد البشرية والعسكرية، لهذا يُفهم عدم تمسك الجيش النظامي بحلب وانسحابه منها دون قتال، لكن الفرار من حماة -إحدى محافظات سوريا المفيدة- في أقل من يوم، يعطي نظرة مستقبلية عن شكل المعركة القريبة في جارتها الأهم حمص، والتي ربما تشكل نهاية الرحلة، خصوصًا أنه وفي حال سيطرة المعارضة عليها، ستنقطع الطرق بين دمشق ومدن الساحل، وسترزح العاصمة تحت الحصار بشكل كامل، مع فقدان الأسد مدن الجنوب، درعا والسويداء.
لهذا لم يكن مستغربًا النصائح التي وجهها “مسؤولون مصريون وأردنيون” للأسد بمغادرة سوريا دون تأخير، وتشكيل حكومة منفى من الخارج قبل وصول المعارضة إلى باب قصره.
هذا السيناريو، إن حصل فعلاً، قد يكون الخطوة الأخيرة التي يحمي بها الأسد نفسه، وسيكون آخر سطر قصير في حياة الرجل الذي أدمن الرقص على السلالم.. حتى سقط.